السوريون وغزّة التي تُذبح

24 أكتوبر 2023

علما فلسطين والثورة السورية في احتجاج لمناصرة غزة في إدلب شمال سورية (18/10/2023/Getty)

+ الخط -

حتى وقتٍ قريب كان السوريون يُساقون، بكل فئاتهم وشرائحهم، إلى المسيرات التي تنظمها القيادة السياسية، وتحت إشراف (ومتابعة) أجهزة المخابرات بكل تنويعاتها ومسمّياتها. كان هذا قبل أن تتقسم سورية إلى مناطق نفوذ، وقبل أن ترفرف في سمائها أعلامٌ وراياتٌ بتلوينات متعدّدة، واستمر في مناطق النظام حتى وقت قريب.

كانت غالبية المسيرات تخرج من المدارس والمعامل والمؤسّسات والوزارات والنقابات والاتحادات، بل وحتى من بين الناس العاديين الذين يسعون، في سبيل لقمتهم ولقمة أبنائهم، وتُقام المهرجانات الخطابية الحماسية التي تذكّر بمناقب القائد الخالد وأعطياته ووقفته الشامخة التي تدعو إلى الفخر في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، والمؤامرة الكونية التي لم تيأس من التربّص بسورية وشعبها وقيادتها الحكيمة منذ فجر التاريخ. وكانت فلسطين حاضرة باستمرار في المسيرات والخطابات الرنّانة التي تنهي الكيان الغاصب من الوجود، وتنتصر عليه في كل خطابٍ وفي كل مسيرةٍ مليونيةٍ يزحف الشعب فيها إلى ساحةٍ يتجمّعون فيها ليقدّموا عربون الوفاء والامتنان للقيادة والقائد، ويعبّروا عن وحدة "المصير والمسار"، وأنهم خلف القائد، والدليل صراخهم، وبعضُهم على الأكتاف، "بالروح بالدم نفديك".

منذ سبعينيات القرن الماضي، وُلدت أجيال من السوريين، ثم كبروا لا يعرفون شيئًا غير أن الأسد قائدهم إلى الأبد، وأن فلسطين قضيتهم الكبرى، يعيشون ويكبُرون من أجلها، حتى صارت شيئًا فشيئًا هناك قضية، من دون أن يعرفوا ما هي، لكنها القضية الحاضرة في المسيرات والخطابات والصحف والإذاعة والتلفزيون والمدارس وكتب التربية الوطنية، وبعدها القومية، وفي حصص التربية العسكرية وفي منظمة الطلائع والشبيبة والطلبة، وفي الاتحاد النسائي ونقابات العمّال واتّحادات الفلاحين، في الشوارع واللافتات التي تتوزّع جدران الأحياء في المدن والقرى، وحتى جدران البيوت.

التجمّع الوحيد الذي كان مسموحًا به هو المسيرات التي تديرها أجهزة النظام

وبدعوى الوقوف في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، وصوْنًا للقضية النبيلة التي يدفع الفرد السوري ضريبتها من حياته ورزقه وعرق جبينه وحصّة أولاده من المستقبل، صارت الحياة تنزلق بسبب الفساد والقمع والتغوّل الأمني في المجتمع، وسلب الحقوق وغياب المساواة والعدالة في الفرص والواجبات والحقوق، وإقصاء الشعب عن القرار وعن موارد البلاد التي تتسرب في ثقوبٍ مجهولة، إلى مستوياتٍ لم تعد محمولة، فانتفض الشعب في لحظةٍ ما، عندما أدرك وجوده وواقعه، انتفض لكرامته قبل كل شيء، ونزل الناس إلى الساحات مطالبين بدايةً بالإصلاحات وبالحرية. وكلنا يذكُر كيف راح النظام بالتوازي يسوق الناس في مسيراته المليونية، يتحدّون المؤامرة الكونية على سوريّة، ويجدّدون وقوفهم خلف القيادة الحكيمة، وخلف قائدهم في حربهما المقدّسة تلك، التي راح الناس يُقتلون فيها بالعشرات، ثم بالمئات، ينهمر عليهم الموت من السماء براميل متفجّرة، ومن الأرض ومن كل مكان. وراحت الحرب تشتعل بزخم أكبر، والأطراف الخارجية تدخل بجيوشها حينًا، وبمقاتلين مأجورين حينًا، وبتجنيد السوريين بعضهم ضد بعض حينًا آخر. ... ولا داعي للاستفاضة أكثر وشرح ما هو واضح ومعروف.

متى اختفت المسيرات من سورية؟ أخمّن أنها خرجت في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية في مايو/ أيار 2021. بعدها كان الجو العام يميل إلى انتظار الوعود بثمرة الانتصار التي لاحت بوادرُها، كما بشّر بها النظام، منذ العام 2018، وكانت نتيجة هذا الانتصار سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ، ما زالت العمليات العسكرية تدور في بعضها، كما في الشمال الغربي، وشرق سورية وشمالها، وهناك الجنوب، وانتفاضة السويداء الحالية.

التجمّع الوحيد الذي كان مسموحًا به هو المسيرات التي تديرها أجهزة النظام، أما التظاهر، فبعد أن جرّبه السوريون، وكانت نتيجتُه، التي ربت باقي شرائح الشعب السوري في مناطق النظام، ما وصلنا إليه، وعودة الخوف ليسكن النفوس.

كل العالم يرى الوحشية غير المسبوقة في غزّة، تستثير النفوس والضمائر في شتّى بقاع الأرض، ويخرجون للتنديد والصراخ، إلّا في سورية

اليوم، هناك حدث جلل، حرّك العالم بأركانه الأربعة، حكوماتٍ وشعوبًا، وهو في صلب القضية التي صارت في وعي أجيال من السوريين مفهومًا ضبابيًا، صارت رمزًا مجرّدًا يدخل في دائرة التجريد، وربما الميتافيزيقيا، هي قضية عظيمة مقدّسة، على كل سوري أن يعيش من أجلها، ويقسم للقائد بالولاء له ولها. حدثٌ فيه من الإجرام بحقّ الإنسانية ما يتحدّى كل القوانين الدولية، والقيم الأخلاقية، ويدمي القلوب والعواطف ويمزّق الضمائر. دفعت الحرب الإسرائيلية على غزّة الملايين في شتى أنحاء العالم إلى النزول إلى الشوارع والصراخ في وجه الحكومات والأنظمة والمنظمّات الدولية، كي ينصروا المستهدفين المنتهكة حياتهم، المسجونين في فضاء مفتوح، ترميهم الطائرات من الجو فتحصُدهم بالمئات. أشلاء الأطفال والنساء والكبار تغزو المواقع والمنصّات والمنابر كلها. كل العالم يرى هذه الوحشية غير المسبوقة، المدعومة من الغرب بالمطلق، تستثير النفوس والضمائر في شتّى بقاع الأرض، ويخرجون للتنديد والصراخ، إلّا في سورية، حيث النظام المقاوم حارس القضية، لا يقوى السوريون على الخروج والتظاهر والتنديد... أيّ جرح أعمق وأيّ إهانة أكبر؟ هل فقط لأن السوريين يحملون فوق ظهورهم ما تنوء تحته الجبال؟ هل لأنهم لم يبقَ في حياتهم مكانٌ لنضالٍ آخر غير النضال في سبيل الرغيف؟ هل لأن الموت الذي حصد مئات الآلاف منهم في السنوات العشر الماضية، والتدمير والتهجير وانهيار الحياة جعلهم غير عابئين بالفجور والوحشية التي تمارسها إسرائيل بحقّ سكّان غزة؟ بل وفي الضفة الغربية أيضًا؟ أم أن التجمعات ممنوعة حتى لو كانت مسيرات، خوفًا من تحوّلها إلى مظاهرات؟ تثير التجمّعات حفيظة نظامٍ لم يعترف في أي يوم بحقّ الشعب في أن يتظاهر ويعبر عن مطالبه، عن مطامحه، عن اعتراضاته، عن مشاعره، عن الدفاع عن كرامته وإرادته؟ بل حتى تجمّعات الأعراس والأفراح يجب أن تكون تحت رقابته الأمنية، وبموافقة أمنية مسبقة. ولماذا لا تنظّم القيادة الحكيمة مسيرات مثل تلك المليونيات التي كانت تسيّرها في ذكرى الحركة التصحيحية التي أسّست لتاريخ سورية بعدما كانت غفلًا بلا وجود ولا تاريخ؟ وفي ذكرى حرب تشرين "التحريرية" التي تذكّر الشعب السوري بأن جزءًا عزيزًا من أرضهم ما زالت إسرائيل تحتلّه، وما زالت إسرائيل تقصف أرضهم باستمرار وتحتفظ القيادة بحقّ الرد، وتلفت نظرهم أيضًا إلى الاحتلالات الحديثة التي قضمت أجزاء من أرضهم، وقسمتها.

لم يكن السوري بلا نخوة، ولم يكن بلا ضمير، ولم يكن بلا تاريخ، لكن ما وقع عليه ويقع اليوم، وضعه في هذه الدائرة التي تفتت روحه وتقتله مرّتين، السوري عاجز حتى عن التعبير، فكيف بالفعل؟