السياسة الأميركية لاحتواء هنتنغتون

17 سبتمبر 2023
+ الخط -

توقّع الرئيس الأميركي جو بايدن، الأحد 10 سبتمبر/ أيلول الجاري، "بداية حقبة تعاون أكبر" مع فيتنام، ونفى أن يكون راغباً في "احتواء" الصين، بحسب ما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. وكان بايدن قد توجّه إلى هانوي، بعد أن حضر قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، وللهدف نفسه، المتمثل بالتأكيد على النفوذ الأميركي في آسيا، على أبواب الصين. وقال إنه أبرم "شراكة استراتيجية واسعة" في اجتماعه مع زعيم الحزب الشيوعي الحاكم نغوين فو ترونغ.

ظهرت مع نهاية الحرب الباردة مجموعة من الأطروحات التي تقرّ بالتحوّل الجذري للعلاقات الدولية، وهذه الأطروحات تنظر بشكل سلبي ومتشائم إلى ما ستكون عليه الحضارات من صراعات عنيفة، بدلاً من أن تقوم على المصالح الاقتصادية المتبادلة. ويُعتبر صامويل هنتنغتون من أشهر من تحدّث عن نظرية "صراع الحضارات". يرى في كتابه أن الصراعات سوف تنشأ بعد الحرب الباردة، وسوف تكون حضارية ذات أسباب ثقافية ودينية، وليست صراعات قومية ذات عوامل سياسية، أو أيديولوجية، أو حتى اقتصادية. ومن أهم الحضارات التي عدّدها هنتنغتون الأرثوذكسية وتضمّ الحضارة الروسية، والهندوسية وتضم الهند، والبوذية الكونفوشيوسية وتضمّ الصين، والإسلامية، إضافة إلى الحضارة الأفريقية.

ليس صحيحاً ما أعلنه بايدن في هانوي أن لا نية في احتواء الصين، إذ لا يحتاج المتابع لكثير من الذكاء كي يحلّل أن الممر الاقتصادي الهندي الذي كان من تأليف واشنطن والرياض وتصميمهما، ويعرف بـ"IMEC"، بعد انضمام كل من الهند ودول الاتحاد الأوروبي إليه، إضافة إلى الإمارات، يهدف إلى قطع الطريق أمام مبادرة الصين "الحزام والطريق" التي افتتحها الرئيس الصيني شي جين بينغ. إذ وفق ما ذكرته وكالة رويترز، فإن التفاهم وقع في وقت حساس يسعى فيه بايدن لمواجهة مبادرة البنية التحتية العالمية للممر الاقتصادي الصيني.

لم تُقدّم أي التزامات مالية للمشروع، إلا أنّ الأطراف اتفقت على وضع "خطّة عمل" تفصيلية خلال 60 يوماً، وفق وكالة الأنباء السعودية وصحيفة فاينانشال تايمز. يتكون المشروع من ممرّين منفصلين: شرقي بحري سيمتد من موانئ الهند إلى الإمارات عبر بحر العرب، وبحري شمالي سيعبر السعودية بالسكك الحديدية، وصولاً إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا.

سياسة الاحتواء الأميركية للصعود الروسي والصيني في طريقها نحو التنفيذ، لكنّ هنتنغتون ذكر في حديثه عن "صدام الحضارات" الصعود الأفريقي والحضارة الإسلامية أيضاً

تنبع أهمية IMEC من أنه سيجعل من الهند مركزاً عالمياً للإنتاج منخفض التكلفة، منافساً للصين، وسيربط نيودلهي بسلاسل الإمداد الأوروبية والعالمية، كما أنه سيجعل من السعودية والخليج جزءاً أساسياً من سلاسل الإمداد العالمي.

رغم الأهمية الاقتصادية لهذا الممرّ الذي سيسمح بتأمين ملايين فرص العمل، كما ذكر الموقعون عليه، إلا أنه يبدو نموذجاً جديداً من الاحتواء الأميركي للصين، عبر الدفع نحو "التشظّي" لفكرة أن الصين هي "مصنع العالم" الوحيد، من خلال خلق مصنع جديد منافس، وهي الهند التي أصبحت الأولى عالمياً في التعداد السكاني، على طريق التصنيع العالمي عبر هذا الممر. لهذا يرى بعضهم أن ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، 12 سبتمبر/ أيلول، في أثناء تصريح له في منتدى الشرق الاقتصادي، بمدينة مفلاديفوستوك، في ردّه على الممر، إن "الغرب يحاول ردع الصين لكنه سيفشل"، ليس إلا أوهاماً وتمنيات للسيد بوتين.

لم يزل بعضهم يتوقعون أن سياسة "الاحتواء" الأميركية للصين ستكون شبيهة بالنسخة الروسية، عندما دفعت واشنطن موسكو إلى الدخول في الوحول الأوكرانية، في حرب عسكرية مستمرّة منذ أكثر من 18 شهراً. ورغم أن كل التقديرات العسكرية كانت تفيد بأنها ستكون حرب "نزهة" لأعظم جيش في العالم، فإنّ الأميركي جعل منها نموذجاً عن "الحرب الفيتنامية أو الأفغانية"، ولكن بمظهر جديد.

سياسة الاحتواء الأميركية للصعود الروسي والصيني في طريقها نحو التنفيذ، لكنّ هنتنغتون ذكر في حديثه عن "صدام الحضارات" الصعود الأفريقي والحضارة الإسلامية أيضاً. لهذا، الاحتواء الأميركي واضح لهذه القوة الجديدة التي قد تصبح منافسة جدّية للولايات المتحدة.

لا يتوقّف الاحتواء الأميركي عند إحداث شرخ بين المسلمين في الشرق الأوسط، بل يمتدّ ذلك نحو دول آسيا الوسطى التي تشهد توترات كبيرة، منها الحدودية ومنها الجيواستراتيجية

يُنظر إلى موجة الانقلابات والتمرّدات العسكرية في القارّة السمراء إلى أنها باتت تُنذر باقتراب موعد الصراعات العسكرية، مع ارتفاع فرص دخولها بحروب داخلية بين مؤيد للتمرد وبين رافض له، والنموذج السوداني مثال على ذلك. والأمور في الدول الأفريقية معقدة جداً، وخطر الانزلاق نحو حروب قد لا تنتهي أصبح حاضراً وبقوة. لقد استطاعت الحركات الانقلابية إحداث حالة من الفوضى العارمة التي باتت تهدّد بأخذ القارّة نحو نفق الحروب. يعتبر بعضهم أن أصابع المخابرات الأميركية موجودة لإحداث التوترات التي تريدها، فهي من جهة تضرب النفوذ الفرنسي، وتضع الحضور الروسي عبر مجموعتها فاغنر، وتفرض بدورها حضورها على هذه الدول التي تجمعها مع كثير منها تحالفات على مختلف الصعد.

ليس حال الحضارة الإسلامية في العالم أفضل من الحضارات الأخرى، فرغم الاتفاق السعودي الإيراني الذي عكس ارتياحاً على أكثر من صعيد، فإن نقاط الخلافات واسعة وعميقة؛ فبالأمس وجّهت إيران تهديداً "ضمنياً" للإمارات من محاولة استعادة "الجزر الثلاث". ولم يزل الخلاف مستمراً بين إيران وكل من السعودية والكويت على حقل الدرّة، في إصرار واضح للمملكة والكويت على أن هذا الحقل لا دخل لإيران فيه.

لا يتوقّف الاحتواء الأميركي عند إحداث شرخ بين المسلمين في الشرق الأوسط، بل يمتدّ ذلك نحو دول آسيا الوسطى التي تشهد توترات كبيرة، منها الحدودية ومنها الجيواستراتيجية. وقد قرّرت إدارة بايدن على ما يبدو، تطبيق سياسة احتواء لـ"حضارات" هنتنغتون، من خلال منع صعودها على الساحة الدولية، كما تنبأ بها الكاتب، لأن في صعودها سيكون هناك محاولة جدّية لإقصاء الدور الأميركي لاعباً رئيسياً في المشهد الدولي. وهذا ما لم تسمح به الإدارة الأميركية، التي بدل أن تعمد إلى الحرب العسكرية لضرب أعدائها، تراها اليوم تفعّل سياسة الاحتواء لكل حضارة بحسب ما يحتاجه الواقع، فهل ستنجح في ذلك؟

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب