السيسي وأهل التاريخ
لو أن الخوف لا يظلّل المجال العام في مصر، لانتفضت الأوساط الأكاديمية والتعليمية الجامعية والثقافية والإعلامية، في بياناتٍ غاضبةٍ أو اعتصاماتٍ ساخطة، تنديدا بالاستخفاف الذي رمى به الرئيس عبد الفتاح السيسي تدريس التاريخ والجغرافيا في الجامعات، لمّا قال إن سوق العمل في مصر ليس فيه "الكلام دَه"، وسأل إن كان من يدرّسون أبناءهم في هذه الأقسام يعرفون هذا، أم إنهم يريدون أن يغسلوا أيديهم بأنهم أدّوا ما عليهم وعلّموا أبناءهم. وليس هذا الكلام في سويّة ألفية ابن مالك حتى يحتاج إلى الشرّاح، على ما ظنّ أحدهم، فكتب إن هذا القول لا يحمل ذرّة عدم تقديرٍ لتلك التخصّصات. كما أن وزارة التعليم العالي في مصر لم تكن في حاجةٍ إلى أن يُبلغ "مصدرٌ" منها موقعا إلكترونيا إن السيسي لم يقصد غلق كليات التاريخ والجغرافيا وأقسامها. .. ما تلفّظ به الرجل في إطلاق "المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية"، الاثنين الماضي، يشرَح نفسَه بنفسه، في مطوّلةٍ جاء فيها على حزمةٍ من مشكلاتٍ ظاهرةٍ في التعليم والصحة والتشغيل والإسكان وغيرها، فبدا كأنه شخصٌ معارض، وليس رئيسَ دولةٍ، من أولى واجباته أن يجترح حلولا لهذه المشكلات، أو يُطلق مبادراتٍ وطنيةً كبرى، بالشراكة مثلا بين أجهزة الدولة ومؤسساتها والمجتمع المحلي في غير قطاع. ولكن شيئا من هذا لم يُسمع من السيسي في المناسبة هذه، ولا في مناسباتٍ وخطبٍ سابقة، من دون أن يغفَل مرّة عن تحميل ثورة يناير المسؤولية عن الصعوبات العامة في البلد.
عندما نسمع من رئيس مصر إن ثمّة مشكلةً في سوق العمل في بلده بشأن من يتخرّجون من كليات الآداب في الجامعات سيظن السامع أن الشبّان خرّيجي الاختصاصات الأخرى يصادفون فرص التوظيف والشغل في القطاعين، العام والخاص، قدّامهم، لينتقوا منها ما يشاؤون ممّا يؤمنون بها العيش الذي يتطلعون إليه، ولكن نقباء المهندسين يتحدّثون (للصحف الرسمية وغيرها) عن نسب بطالةٍ ليست قليلة بين منتسبيها، من ذلك مثلا إنها وصلت بين مهندسي البترول في العام 2016 إلى 57%. ولربما كان على السيسي أن يعرف إن كثيرين ممن يلتحقون للدراسة في كليات الآداب (الفلسفة مثلا) إنما تفرض عليهم هذا شروطُ عملية التنسيق والقبول في الجامعات، على غير رغبتهم. .. هذا إذا رُحنا إلى الجانب التقني من المسألة، وأهل الاختصاص أدرى بالتفاصيل. وبديهيٌّ أن اختلالا كبيرا بين احتياجات سوق العمل وأعداد خرّيجي الآداب (التاريخ والجغرافيا وغيرهما)، يعود، في جوانبه الأهم، إلى قصور في التخطيط وبناء الرؤى والسياسات العامة في الدولة، وليس بالضرورة إلى الأهالي والطلاب (لو أحدٌ يُعلم الرئيس إن منهم من يحبّون دراستهم التاريخ والجغرافيا أيضا).
الأنفع أن يتأهل للحديث في هذا الأمر أهل درايةٍ ومعرفةٍ وكفاءة، غير أن هؤلاء، بعد الذي أدلى به السيسي أخيرا، قد يتهيّبون الإفضاء بما في دلوهم مما يتعلق بسوء إدارة التأهيل العام للخرّيجين، وشحّ فرص العمل وفجواتها في غير قطاع. ولكن، في الوسع أن يرى واحدُنا في استخفاف الرئيس بتدريس التاريخ والجغرافيا، وبأسلوبٍ من الحكي ينطوي على ازدراءٍ ظاهر، وجوها من الخطورة والحساسية البالغتيْن، إذ من شأن كلامٍ كهذا عندما يصدُر عن رأس الدولة أن يضرب في الوعي الاجتماعي العام القيمة العليا لقراءة التاريخ ودرْسه وتعلمه، كما الحال بشأن الجغرافيا وما يتصل بها من اختصاصاتٍ على تماسّ مباشرٍ بحاجيات للشعب المصري. ومرجّحٌ إلى منزلة التأكيد أن شعورا بالمهانة والإحباط والخذلان قد ساور مدرّسي التاريخ والجغرافيا في الجامعات المصرية، عندما يرميهم رئيس بلدِهم بقلة الجدوى منهم، وعندما لا يتحرّز في كلامه، فلا يأتي، ولو من قبيل التأدّب، على أهمية دورٍ يؤدّونه في تأهيل خرّيجين، يُفترض الحرص على كفاءتهم، أقلّه من أجل تدريس الأجيال في مراحل التعليم المدرسي تاريخ البلد والأمة.
لا تزوّدك الذاكرة بمرّةٍ دلّل فيها عبد الفتاح السيسي، في أيّ من خطبه ومواسمه الكلامية، على دراية لديه بشيء من التاريخ، ربما باستثناء إشارته، في معرض الدفاع عن نفسه بشأن بنائه القصور، إلى تشبيهه ما يفعل بما كان محمد علي (باشا) يفعل. يبدو أنها هذه هي حدود معرفة رئيس دولةٍ عربيةٍ كبرى، عريقة في عمق الحضارة، بالتاريخ، فيما رئيس روسيا، بوتين، يُشغل مواطنيه بالتاريخ، في تبرير ما يعدّه تصحيحا لأخطاءَ في هذا التاريخ، تؤدّيه قاذفاته ودبّاباته في أوكرانيا.