الشعب السوري فقد الحرية في سبيل حريته
مع ازدياد انغلاق الأفق في وجه السوريين، وتحوّل حياتهم إلى كل أشكال استحالة العيش إلّا في الحد الأدنى من سد الرمق، تزداد ضرورة طرح الأسئلة، قد لا توصل الأسئلة إلى نتيجةٍ أو حلّ شافٍ، لكن تراكم الأسئلة ربما يوقد شعلةً صغيرةً تتقد في هذا النفق المظلم.
يحقّ السؤال اليوم عن كيف يصنع الفارق، ومن يستطيع وضع أول مدماك في بناء هذا الفارق؟ بعد عامين من الحراك السوري، وكانت المعارك تجري بشراسة غير مسبوقة، وتتجه الانتفاضة نحو الاحتضار، لتحل محلّها صراعات إقليمية ودولية مدعومة بتجييش عقائدي ومذهبي، فعلت فعلها في تضليل وعي الناس، وحرفِهم عن طموحاتهم وأحلامهم بوطنٍ بديلٍ تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وتستعاد الحقوق المنتهكة وتصان الكرامة، لتغرق البلاد في مستنقع الدماء وترفرف فوق أراضيها المنكوبة رايات الجحيم، في ذلك الوقت كانت الليرة بدأت بالانزلاق نحو الهاوية، وبدأت حياة الناس الباقين داخل البلاد تعاني من عضّة الفقر والجوع، وكان أحد الهواجس التي هجس بها بعض النخب السورية، ومن بينهم كاتبة هذه السطور، أن تكون هناك "ثورة جياع" باتت تلوح في الأفق.
صراعات إقليمية ودولية مدعومة بتجييش عقائدي ومذهبي، فعلت فعلها في تضليل وعي الناس، وحرفهم عن طموحاتهم وأحلامهم بوطنٍ بديلٍ تتحقق فيه العدالة الاجتماعية
عندما يتقلص فضاء الثورة وتختصر مطالبها في تأمين الطعام ودرء الجوع فقط، فإن هذا يرهن المستقبل إلى بطون خاوية، وليس إلى ضمائر منتهكة وعقول تبحث عن بدائل تليق بذواتها المكتشفة، وما تعاني من انتهاك لإنسانيتها.
قبل الحراك، أو الانتفاضة التي اندلعت في مارس/ آذار 2011، لم يكن الفقر في سورية بأنياب تعضّ، صحيح أن شرائح واسعة من الشعب كانت محرومةً من كثير مما تتطلبه حياة البشر في هذا العصر، عصر الدول الحديثة والحكومات القائمة على تأمين شعوبها بحياةٍ لائقة، لكن الفقر لم يكن قد وصل بالناس إلى عضّة الجوع، وكان أكثر ما يلحّ على السوري إمساكه بقراره ورفع الظلم والتجبر والقمع وكم الأفواه ومصادرة الرأي، واستعادة الشعب حقه في صنع حياته ومستقبله ومصيره، كان الشعب يعاني من القوالب الجبارة التي حشرته في فضاءٍ ضيقٍ وكمّت أفواهه، وجعلت مجرّد التفكير خارج النسق المفروض من الأعلى تقابله المقامرة بحياته. وكان متوقعاً، أو مأمولاً من انتفاضة الشعب أن تتكامل وتنضج ليحقّ لها أن تكون ثورةً بكل معنى الكلمة، ثورة على الواقع كله، وإحداث انقلاب جذري، والمضي في بناء مشروع الدولة المشتهاة، الدولة التي يحقّ لكل فرد فيها أن يشعر بأنها دولته، وبأن الوطن وطنه، لكن أن تتحوّل إلى ثورة جياع، فهذا وحده كان جديراً بأن يُقلق المتابعين والحالمين.
السوري عبد اللحظة الفارقة التي تبقيه في حيز الحياة، وهو على شفير الموت في كل لحظة، اللحظة التي يلزمها فقط رغيف الخبز لتمنحه الحياة عتبتها ليس أكثر
بعد عشر سنوات، صارت الصورة مخيفة حدّ الذعر، إنها لم تعد ثورة جياع، بل صار المنتظر من هذه الظروف الحياتية الغاشمة التي تلفّ حبائلها على أعناق الشعب، أن تكون ثورة عبيد. نعم، ثورة عبيد في القرن الواحد والعشرين، ولا يضيم أي حرّ في هذا البلد المنكوب أن يوصف بالعبد، فلا طائل من مناورة الواقع، بكل أدلته ومؤشّراته الفجة القاسية على أن الشعب السوري مستعبدٌ حدّ الرمق. ولا أعني هنا العبودية كبنيان أخلاقي وقيمي ومفاهيمي، بل كواقع مفروض بحكم القوة، الحرب ومصادرة كل الخيارات، إلّا ما تقدمه من أشكال الحياة، مع عدم تغافل حقيقة أن الأخلاق تنشأ كمنظومة معرفية وسلوكية لجوهر الوجود الإنساني، وتؤثّر بها وبصياغتها البيئة الفاعلة في الحياة، دينية كانت أو أيديولوجية أو فلسفية أو معرفية، وهذا حديثٌ آخر عن السلوكيات والمفاهيم بعد سنواتٍ عشر من الجحيم، والتي هي في الواقع حصيلة قرون توّجتها العقود الأخيرة من تكريس التاريخ التسلطي بكل ما يحمل من قدرات الاستعباد الذاتي والاستلاب الوجودي لقيمة الإنسان. صارت الأخلاق والقيم من الماضي، وصار الشباب في سورية يلهثون وراء فرصة التحاق بفصائل تقاتل في معارك بعيدة لصالح دول أخرى، زجّتهم فيها الدول المسيطرة على الميدان في سورية، وهذا شكلٌ موجعٌ من أشكال العبودية.
عبودية الشعب السوري تمارس جبروتها على أرواح السوريين في الخارج والداخل. للخارج مجالاته التي تتباين بين بلد لجوء وآخر، حيث تختلف درجة العبودية لحياة مشروطة بحكم ظروف قاهرة لا إنسانية، خصوصاً في دول الجوار، بين تركيا ولبنان والأردن، وأولئك العالقين في اليونان. ربما حظ السوريين الذين نفدوا من الموت في طريق هجرتهم القاتل، ووصلوا إلى الدول الأوروبية، أوفر من هؤلاء، لما تقدّمه الدول الأوروبية من مساعداتٍ وضماناتٍ حياتية، وفرص تأهيل من أجل دخول سوق العمل، لكن الأمر لا يخلو من ظروفٍ قاهرة لعدد منهم يجعلهم واقعين في ما يشبه العبودية، الإذعان لشروط عمل من دون أن يمتلكوا الحق القانوني في الدفاع عن حقوقهم.
يزداد الوضع ارتهاناً للعبودية مع كل صبحٍ جديد في تقويم السوريين، وفي احتساب أعمارهم المقطوعة عن الزمن
أما في الداخل، يزداد الوضع ارتهاناً للعبودية مع كل صبحٍ جديد في تقويم السوريين، وفي احتساب أعمارهم المقطوعة عن الزمن. السوري عبد اللحظة الفارقة التي تبقيه في حيز الحياة، وهو على شفير الموت في كل لحظة، اللحظة التي يلزمها فقط رغيف الخبز لتمنحه الحياة عتبتها ليس أكثر، يبقى واقفاً عليها في طابور انتظار الرغيف التالي ليوم آخر. حياة بلا غد ولا طموح ولا أمل ولا أمان ولا خيال، حياة مراوغة تمنح الشعور بهزيمة الموت والانتصار في معارك وهمية ضده. السوري عبد مزاج الحرب ومخلفاتها، محسوبٌ على خانة المواطنة، من أجل أن يؤدّي استحقاق الحرب التي لم يؤخذ رأيه فيها، مطلوبٌ منه تقديم حياته تلبية لنداء الواجب، والوقوف في وجه المؤامرة الكونية على بلاده، والتي أصبحت حقيقةً لا مجال للشك فيها، لم تبق قوة في الجوار أو في العالم إلّا ووضعت سلاحها في الحرب على سورية، وأدارت معاركها البعيدة والقريبة على أرضها وبأرواح شعبها. مطلوبٌ من السوري أن يدفع الفواتير كلها، حتى مِن دخلِه الذي لا يكفيه لسد رمقه ورمق أطفاله، ليرفد الخزينة حتى تستمر الحرب، يكاد وضعُه يسقط تحت الشرط الأساسي لأن يكون الإنسان عبداً، أن ينفق عليه رب العمل ثمن أكله ليس أكثر، بينما السوري لا تمنحه الدولة أكثر من ثمن رغيفه، بينما يقوم بالعمل المفروض عليه، ولو كان دفع حياته في حرب لا يريدها.
في سورية الرجل مستعبد، المرأة مستعبدة، الطفل مستعبد، كل بأدوات تخصّه فرضتها الحرب وانهيار الحياة، وصار الشعب موزعاً بين شريحتين، شريحة الأثرياء التي لا تتجاوز العشرة بالمائة، بيدها المقادير كلها، والقرارات كلها، وشريحة الباقين على سد الرمق في طابور الذل والعار والموت، يقاربون التسعين في المائة، تكاد ظروفهم الغاشمة تشبّههم بعبيد روما، فقد كانوا يتصارعون مع بعضهم بعضاً، ولا ينتهي النزال إلا إذا قتل أحدهما الآخر، وهذا لم يعد مظهراً غريباً عن واقع حياة السوريين، فكيف لهؤلاء المرتهنة حياتهم لهذه العبودية الماكرة أن يصنعوا الفارق، أن يقلبوا الطاولة ويقلبوا كل شيء؟ ما الذي ينقصهم في ظل تجاهل العالم مجتمعاً لبؤسهم وموتهم وعبوديتهم؟ هل ينقصُهم القائد الملهم الذي ينبثق من بينهم ومن عمق مأساتهم؟ قائد يشبه سبارتاكوس لكن بمشروع يوصل إلى نهاية مختلفة؟ وهل سيتفق العالم على قمع ثورته، بعد أن كان على مدى عشر سنوات يجلس متفرّجاً على حلبة الصراع يقتل السوريون بعضهم بعضاً فيها؟ أم إن السوريين في واقعهم الحالي تصحّ بهم تجربة الضفدع الذي تأقلم مع دفء الماء، حتى وصل إلى الغليان، فلم يستطع القفز والنجاة بعدها؟ واقع سوريالي أليم موجع، إنها العبودية المقنّعة بأعتى أشكالها أمام عيون المجتمع الدولي الذي احتفل في الثاني من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي بالقضاء على العبودية والرق.