الشمس تشرق منتصف الليل في جنين
في الليل الفلسطيني الحالك الموحش الطويل، وفي قليلٍ من الحالات، تقع بعض الخوارق الخارجة، ليس عن ناموس الطبيعة، وإنما عن مجرى الأقدار المقدّرة والوقائع المدبّرة، كأن تطلع الوردة اليانعة من قلب الحجر على سبيل المجاز، أن تقاوم العين مخرز السجان، وهذا يحدث كل يوم. أو أن تصنع ثورة فوق بساط الريح، أن تصبح رقماً في المعادلة لا يقبل الامّحاء، أن يبني فتى من جيل الانتفاضة دولةً بين حجرين، وحدّث ولا حرج عن محاصرة الحصار، عن روحٍ لا تعرف الانكسار، عن العبور شبه المستحيل من قلب عتمة الحكم المؤبد والموت المؤجّل اإلى ضوء الشمس الساطع وفضاء الحرية الرحيب، ولو لوقت ضئيل.
آخر مرة حدثت فيها مثل هذه المعجزات المخبوزة من عجين إرادةٍ لا يفلّها الحديد والنار، وقعت قبل نحو أسبوع، حين أشرقت الشمس بعد منتصف الليل في سماء مدينة جنين، وفاض ضياؤها على ربوع فلسطين، أي عندما عبر ستة أسرى نفق السجن الحصين إلى مدارج الحرية باقتدار، وأسسوا بصنيعهم هذا فجر يوم فلسطيني جديد، تملأه مشاعر العزّة والبأس والثقة بالنفس، ويغمُره الحسّ بالجدارة والندّية والاستحقاق. وربما مهّدوا، بهذه المأثرة، الأرض السياسية لإشعال هبّةٍ شعبيةٍ أخرى، من المقدّر لها أن تكون أكثر تمكّناً من هبّة سيف القدس التي تبدّد وهجها بسرعة، وضاعت مفاعيلها سدى، جرّاء التنازع على المكاسب الفئوية، واموال إعادة الإعمار.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تُشرق فيها الشمس في سماء جنين بعد منتصف الليل، أو في غيرها من مدن الضفة والقدس والقطاع، إلا أن هذه المدينة، الرابضة على سهل مرج ابن عامر، كانت أكثر مدن فلسطين تآخياً مع هذه الظاهرة الكفاحية الملهمة طوال العقود الثلاثة الماضية، ففيما نالت مدينة نابلس لقب عاصمة انتفاضة الحجارة، أواخر الثمانينات، لشدّة بأس فعالياتها الشعبية، كانت جارتها جنين أهلاً للقب عاصمة الانتفاضة المسلحة الثانية مطلع الألفية الثالثة، بفضل ما أبدته جماهيرها من بسالةٍ منقطعة النظير، وما تجلّى في المخيم الذي يحمل اسم مدينة الشيخ عز الدين القسام، من بطولاتٍ فرديةٍ وجماعيةٍ تجلّ عن الوصف، خصوصا عندما جرت إعادة احتلال الضفة الغربية عام 2002، وخاض سكان المخيم الشجاع معركةً ضارية، استمرّت نحو أسبوعين، غطّت فيهما مدينة الشهداء عار احتلال الضفة بدون قتال، فأتت تلك المعركة التي أطلق عليها القائد الراحل أبو عمار، بفخر واعتزاز شديدين، اسم "معركة جنين غراد".
وإذ نستعيد اليوم هذه الصفحات المشرقة من سيرة الكفاح الوطني المجيد لهذه المدينة الباسلة، التي أنتج لها المخرج محمد بكري فيلماً سمّاه "جنين جنين" فذلك لأنها، والبلدات المحيطة بها، هي التي أنجبت الفرسان الستة، الذين حرّروا أنفسهم بأنفسهم، وصاروا في نظر شعبهم أبطالاً ميامين، أو قل أولاداً أعزاء لكل أب وأم، حيت باتت كل أسرة تود احتضانهم، ويرغب كل فلسطيني أن يضعهم في سويداء قلبه، أو أن يغطّيهم برموش عينه، حرصاً على حياتهم، وامتناناً لما بذلوه من تضحيات، واعترافاً بما سطّروه من ملحمة بطولية، صارت مُلكاً مشاعاً لبني قومهم، وذخراً لأبناء جلدتهم في الداخل والخارج، في مشهدٍ وطنيٍّ نادر، هلل له الجميع على سائر مستويات المسؤولية، بما في ذلك حركة فتح والسلطة ومنظمة التحرير، عدا عن مختلف الفصائل في القطاع والقدس والضفة الغربية، ناهيك عن القوى السياسية والاجتماعية في مناطق 48.
ولعل المشاهد التضامنية العارمة، المتواصلة منذ عدة أيام، وتشارك فيها مختلف المكونات، داخل الأرض المحتلة، إعراباً عن استعدادها للذود عمن صاروا، بحق، أبطالاً قوميين مبجّلين، سيما تلك المشاهد المنقولة بالصوت والصورة من جنين، ومن مخيمها الذي سبق له أن أسقى المحتلين كؤوساً طافحات بالدم، تؤكّد، بلا أدنى ريب، أن جيلاً فلسطينياً جديداً قد انبثق من قلب الحصارات المديدة، من براثن السجون الرهيبة، من حصاد التجارب المريرة، وأن أفراد هذا الجيل، وهم في أوائل العشرينات من ريعان أعمارهم، ممن كانوا أطفالاً بعد، يوم كان جنود الاحتلال يقتحمون بيوتهم الفقيرة، ويأخذون آباءهم أسرى معصوبي العيون، نقول إن هؤلاء الفرسان النبلاء الأشداء، الذين يتصدّرون المشهد الفلسطيني الآن، أصبحوا معقد الرجاء، موضع الرهان، وقبلة أنظار شعبٍ ظلّ يربّي الأمل كما يربّي أولاده والبنات، ويسلّم الراية من جيل إلى جيل، يقاوم ويصمد، ويصبر على الصبر بلا ملل ولا كلل.