الصحراء أو الجمال السائب

25 نوفمبر 2024

غروب الشمس في صحراء الربع الخالي في عُمان (Getty1/1/2013)

+ الخط -

بعد طول طريق بجانب الجبال، ستتبدّى لك اللوحة الطبيعية وكأنّ هذه الجبال، ذات الأحجام الضخمة والكتل الصخرية العالية، قد شرعت فجأة في الذوبان، إذ تتسلّم مشهد العين كثبانٌ رمليةٌ متناسخةٌ متدرّجةٌ في متواليات اللون البنّي، وستعلم حينها أن رحلة الصحراء قد بدأت.
في هذه الأوقات من السنة، يحلو الجو، بعد شهور من الحرارة وصفها مرّةً أحد الرحّالة بعبارة دالّة: "حرّ عُمان يذيب السيف في غمده". غير أن الناس، في هذه الأوقات الدافئة، يتوافدون جماعاتٍ لقضاء سحابة نهارهم حتى هطل الليل.هناك من المستثمرين من أنشأ استراحاتٍ عائليةً لقضاء نصف يوم، يبدأ عادةً من العاشرة صباحاً ويبقى إلى العاشرة مساء، وهذه الاستراحات أصبحت منتشرةً جدّاً في ربوع عُمان نوعاً من تنشيط السياحة الداخلية الخاصّة. وفي الأوقات التي يتحسّن فيها الجوّ، يكون جدول زياراتها مزدحماً، وهذه الاستراحات تُزوَّد عادةً بلوازم الترفيه من أحواض سباحة وملاعب كرة قدم داخلية وألعاب بسيطة، وهي في العادة تكون مزارع مهجورةً شذّب الشجر منها واستُثمِرت في الوجه الذي يضمن وجود راغبين في الاستجمام بها، وكثيراً (في مثل هذه الأوقات) ما تنتشر إعلانات الاستراحات عبر تطبيق "واتساب"، وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. وعادة ما تجتمع أكثر من عائلة في هذه الاستراحة أو تلك، وتكون سانحةً لتبادل الأطباق المختلفة، بحسب اختيارات كلّ عائلة، خاصّة أطباق الحلويات.
وبالعودة إلى الصحراء التي يتميّز جوّها عادة في الصيف بالحرارة اللاهبة والكثبان الرملية اللاذعة، تكون في فترة الشتاء مختلفةً تماماً، فيكون صباحها بارداً وممتعاً، والمساء صقيعياً لا يمكن تحمّله من دون إشعال نار والتغطّي بأردية ركينة. وإن كانت الاستراحات في الصحراء ذات طيبعة متقشّفة قياساً إلى استراحات المدن، لكن هذه البساطة تكون جزءاً من سحرها، إذ تتكوّن عادة من الخيام الموزّعة في قطعة أرض رملية، كما تكون هذه الخيام متباعدةً تفرّق بينها طريق مشرعة على مشهد أمواج الرمل تتمدّد في الأفق الخالي. ستحلو حينها مسافاتٌ طويلةٌ تغوص معها الأقدام الحافية تلامس برودة الأعماق، كما أن السكون يكاد ينطق من حولك، سكون كامل لا يخترقه أيُّ صوت، خاصّة في الصباح الباكر، ولكن يمكنك أن ترى على الرمل بعض الخنافس تستعرض عملها الدؤوب. ستقف متأمّلاً رحلةَ هذه الحشرة الصامتة التي كانت مقدّسة قديماً لدى بعض الشعوب.
ابتكرت بعض المخيّمات الصحراوية لعبةَ السيّارات الصغيرة ذات الإطارات القوية التي يمكنها أن تطفو فوق الرمل، ولا يعتليها سوى راكب واحد، وبسبب أمواج الرمل ودفعاته المفاجئة يمكنها أن تسقط، إلّا أنه سقوط لا يؤلم بسبب نعومة الرمل، إنما يثير الضحك إذا كان في الطريق أكثر من راكب واحد أو جماعة من الأصدقاء. مشهد الغروب أيضاً في الصحراء يشكّل لوحةً يصعب أن تفارق الذاكرة، فغروب الصحراء لايوازيه أيُّ غروب في أيّ جهة. سترى الشمس وكأنّها تبدّل ملابسها مستعدّةً للنوم واضحةً أمامك ومتعرّية.
بعض مرتادي الصحراء، خاصّة من الشباب وطلاب الجامعات، يأتون وخيامهم معهم، فتعرض المولات الكبيرة خياماً جاهزةً للبيع، وهناك من لديه سيارة خاصّة بمثابة مخيّم عائلي بغرفة ودورة مياه. فوقت النوم يقضيه في هذه السيارة المجهّزة، وحين يأتي موعد الطبخ فإنّه يشعل النار لإعداد "إسنكانة" شاي في الصحراء، أو يُخرِج من ثلّاجته لحماً ودجاجاً ويبدأ برحلة الشوي مستعيناً بالفحم أو الحطب المنتشر في ربوع الصحراء.
في ظلّ التكنولوجيا والحياة المعلّبة، تكون الصحراء عزاءً حقيقياً، خاصّة حين ترى فرحة كبار السنّ والأطفال. ستكون الأحاسيس واضحةً بجلاء، الأطفال يستغلّون الإمكانات الطبيعية عن جدارة، حين يحملون أجسادهم الصغيرة إلى رأس التلّ ومعهم قطعة شوال أو غطاء ركين أو لوحٌ خشبيّ، ثمّ يبدؤون بالتزحلق من أعلى التلّ وسط ضحك وضجيج ومراقبة سعيدة من الكبار. سنجد أيضاً ألعاباً مشتركة بين الكبار والصغار، كالورق و"الدومنة" و"الأونو"، وفي الليل يثير الموقد المشتعل الأحاديث ويبعث الذكريات من طرف الكبار أمام مسامع الصغار المرهفة، ثمّ تبدأ رحلة عدّ النجوم والحكايات القديمة إلى أن تعبر سحابة النوم بين الجميع.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي