الصفقة المطلوبة في "الإصلاح الأردني"
تطلق مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، هذه الأيام، فيلماً توثيقياً قصيراً بمناسبة مرور عشرة أعوام على الحراك الشعبي في الأردن، بالتزامن مع أفلامٍ توثق التطورات السياسية في أكثر من دولة عربية، وترصد ما آلت إليه الأمور، والتطلعات الشعبية والسياسية نحو الديمقراطية والحرية. يتناول الفيلم الأردني آراء محللين وناشطين عديدين لجملة من الأحداث، بدايةً من الحراك الشعبي في العام 2010، مروراً بحركة 24 آذار (حاولت محاكاة التجارب العربية، بخاصة في ميدان التحرير في مصر)، ثم تشكيل لجنة الحوار الوطني، ولجنة التعديلات الدستورية، ولاحقاً الاحتجاجات الشعبية المتتالية، وصولاً إلى مظاهرات الدوار الرابع 2018، وما تخلل ذلك كلّه من جدال ونقاش سياسي بشان خريطة الطريق نحو الإصلاح والتغيير السياسي.
ما أشبه الليلة بالبارحة! فالنقاشات والحوارات هي نفسها، أردنيّاً، ولا تختلف كثيراً عما يدور اليوم في أروقة الدولة، استعداداً لإطلاق جولة جديدة من الحوارات السياسية الداخلية في الموضوع نفسه، حتى أصبح مصطلح الإصلاح السياسي، كما ذكر خبراء مشاركون في ندوة مركز الدراسات الاستراتيجية (في الجامعة الأردنية الأسبوع الماضي) يثير الانزعاج في الأوساط السياسية والشعبية، ويعمل ناشطون على تجنّبه واستبداله بمفهوم آخر، خشية من الإقرار بأنّنا ما زلنا ندور في المسارات ذاتها. أهمية ما يتضمنه فيلم فريدريش إيبرت أنّه يذكّر الجميع بما تمّ خلال تلك الفترة، ويطرح أسئلة مهمة تستدعي المراجعة من الدولة والنخب والسياسيين، في البحث عن الحلقة المفقودة، أو نقطة البداية الصحيحة لإطلاق مسار داخلي يخرج الجميع من نظرية الـTreadmill (السير في المكان نفسه).
لا تغيب هذه الأزمة عن بال الملك عبدالله الثاني نفسه الذي أشار، في لقائه، أخيرا، مع نخبة من السياسيين، إلى ضرورة تجنّب العودة بالنقاشات إلى المربع الأول، واقترح بديلاً عن ذلك تحديد النتائج والأهداف مسبقاً التي يسعى الجميع إليها، بمعنى: ما هي صورة النظام السياسي التي نريد في السنوات المقبلة، ثم نعود إلى التخطيط بصورة معكوسة، في كيفية تحقيق ذلك.
توفّر الأوراق النقاشية الملكية (طرحها الملك خلال خمسة أعوام 2012 - 2017) مرجعاً مهماً لتحقيق الأهداف، فهي رسمت سقفاً مقبولاً من غالبية القوى السياسية والناشطين بتصوّر نظام سياسي يقوم على حكوماتٍ برلمانيةٍ تمثل الأغلبية الحزبية والسياسية في مجلس النواب، ودولة مدنية تحتكم إلى سيادة القانون ومفاهيم المواطنة وقيمها، وتطوير الجهاز الإداري ليكون حيادياً قادراً على حمل المعادلة السياسية الجديدة في مئوية الدولة الثانية. وبالضرورة، ثمّة سؤال جوهري يطرح في الندوات والنقاشات الحالية في عمّان: لماذا لم تتم ترجمة الأوراق النقاشية خلال الأعوام السابقة، ولماذا أضعنا تلك المدة من دون تطوير الحياة السياسية، بل سمحنا للأوضاع بالتراجع المخيف، الذي بدا واضحاً خلال الأزمات الأخيرة؟ هذه وتلك من النقاشات دفعت الخبراء والسياسيين، في ندوة مركز الدراسات الاستراتيجية، إلى طرح سؤال آخر جدلي: أين أخطأنا؟ ولماذا لم ننجح في بناء نموذج سياسي يتجاوب مع المتغيرات الكبيرة ويعالج المشكلات ويواجه التحديات؟
ما سبق يقودنا إلى العوائق الحقيقية في وجه التغيير الديمقراطي المنشود، لعلّ أبرزها وجود قوى داخل الدولة وخارجها نافذة وقوية، سياسياً ومجتمعياً، ما تزال تخشى من الإصلاح السياسي، والاعتراف في الاختلافات الموجودة في الأولويات الإصلاحية، وصعود الهواجس المتبادلة عند أي محطةٍ للحوار في الإصلاح السياسي. ما يعني أنّنا أمام مهمةٍ رئيسيةٍ وكبيرة تتمثل في بناء التوافق الحقيقي والجوهري بين القوى الفاعلة حول الأرضية المشتركة التي نريد أن نصل إليها وكيفية تحقيق ذلك.
القفزة المطلوبة اليوم هي بناء "الصفقة الوطنية"، إن جاز التعبير، بين القوى المحافظة والأيديولوجية المختلفة في ترسيم سقوف التنازلات والتفاهمات والتوافقات؛ وتقديم الضمانات المتبادلة؛ وهو أمرٌ قد يبدو لبعضهم تأخيراً في قطار الإصلاح، لكن من ينظر إلى التجارب المصرية والتونسية وغيرها، سيكتشف أنّ الشكوك والهواجس حرفت المسارات، حتى بعد الثورات، لأنّه لا يكفي أن نكون متوافقين على ضرورة تغيير الواقع، بل ما هو البديل، وما المسار الآمن الذي علينا أن نسلكه لتحقيق ذلك؟