العالم الموازي لحرب غزّة
فظيعة هي الحروب كم أنها تشرّع أبواباً للترزّق وللانتهازيين. منذ انقضى شهر أو اثنان على بدء الاجتياح الإسرائيلي قطاع غزّة، وتأكّد العالم أن تل أبيب لن تتراجع عن مشروعها "تغيير الثقافة الفلسطينية" مثلما يسمّيها بنيامين نتنياهو، أي غسل دماغ الفلسطينيين، وغسل الأدمغة من سمات الفاشية مثلما هو معروف، وعن عزمها اقتلاع غزّة ورميها في البحر ثم إعادة بنائها وإدارتها من الصفر بمعايير إسرائيلية، انتشرت عشرات الأنباء والتسريبات عن عالم من الخطط يتكوّن هذه الأيام في موازاة القتل الجماعي الجاري والتدمير والتجويع والاعتقال. في "السوشال ميديا" السامّة والمضرّة للصحّة العقلية، عدد غير محدود من النميمة وأخبار المؤامرات، وبعض الكلام الجدّي الذي غالباً ما يكون مقتبساً من "الإعلام الكلاسيكي". والحال أن بعضاً مما يُحكى قد يكون مبالغاتٍ وأمنياتٍ لمسؤولين إسرائيليين أو لمتحمّسين لتحقق تلك الأمنيات، وخيالا يخصّبه واقع أن حرب غزّة لم تترك شيئاً للمستحيل، فصار كل ما هو غير واقعي، شديد الواقعية ويحصل بالفعل ويشاهده العالم بالبث الحي. لكن الأكيد أن الجزء الآخر مما يُنشر بناء على معلومات ووثائق وعمل صحافي استقصائي يرسم ملامح عالم موازٍ لا ينال ما يستحقّ من اهتمام لشدّة هول الفاجعة.
ليس كل ما يحصل في غزّة بموازاة المجزرة هو من سمات المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي المسمّى "اليوم التالي"، والذي يضمن لدول عربية ولفلسطينيين أفراد يمكن أن ينتظموا في أطر جماعية لاحقاً، دوراً مركزياً. اليوم التالي ذاك بات معروف الملامح التي تختصر بجعل غزّة نسخة مسخ عن الحاصل في الضفة الغربية. سلطة فلسطينية تزوّد الاحتلال بالتنسيق الأمني الذي لا يقدّر بثمن، تعمل بحسب ما يُسمح لها كهيئة بلدية منقوصة الصلاحيات، ولم تكسب من اتفاقيات أوسلو إلا بطاقات Vip لقياداتها ووظائف ورواتب لناسها وسلاحاً فردياً يُستخدم للقمع غالباً. العالم الموازي الذي يُبنى واقعياً أو على الورق لا يقلّ خطورة عن اليوم التالي. من ملامحه ما تحدّث عنه رئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل محمد اشتيّة يوم الاثنين من أن هناك "من يعمل على استجلاب شركات أمن خاصة للعمل في غزّة".
في العالم الموازي ذاك، سيصبح قطاع غزّة جزيرة سياسياً، وإن بقي متصلاً جغرافياً بمصر وبإسرائيل. الممرّ المائي للمساعدات عبر جزيرة قبرص حجرٌ أساسٌ في تحويل غزّة إلى جزيرة، لا عمق عربياً لها ولا امتداد جغرافياً وطنياً. في ذلك العالم الموازي كلام كثير عن اجتماعات إسرائيلية مع عائلات غزّية وعشائر قد تشارك في إدارة غزّة غداً. رجال أعمال عديدون تتردّد أسماؤهم، كيفما بحثتَ تجد عاملين اثنين مشتركين بينهم: محمد دحلان، ودولة الإمارات بالتالي، أو سلطات مصرية أو مقرّبين منها من أمثال إبراهيم العرجاني بقوته المالية ــ القبلية ــ السلطوية. في العالم الموازي لحرب الإبادة، ستخسر غزّة تِسع مساحتها، بما أن المنطقة العازلة التي تستكمل إسرائيل تجريفها تحسم 40 كيلومتراً مربعاً من الـ365 كيلومتراً مربّعاً، ذلك أن تلك المنطقة تقضم ما يناهز الألف متر عرضاً على طول الكيلومترات الأربعين، بدل المنطقة العازلة التي كان عرضُها قبل 7 أكتوبر 350 متراً. يكشف تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، نشر يوم الأحد الماضي، أن إسرائيل دمرت 1100 مبنى في المنطقة حتى الآن، أي 40% من العدد المقدّر للمباني في المنطقة العازلة، كذلك فإنها تنشئ طريقاً بعرض 320 مترًا لتقسيم القطاع إلى شمال وجنوب، وقد هدم الاحتلال حتى الآن 150 مبنى لبناء الطريق المذكور، وهو حجر زاوية في كل من "اليوم التالي" والعالم الموازي. في هذا العالم الموازي، خوف كثيرين من أن يصبح الميناء المنوي تشييده لاستقبال مساعدات، مرفاً لهجرة سكّان القطاع، وهو طموح من الطبيعي أن يتملّك غالبية الغزّيين اليوم وغداً.
لا تزال بيانات كل مسؤول فلسطيني مهما كان انتماؤه تُختم بعبارة "مثلما أفشل شعبنا كل المؤامرات، سوف يُفشل هذه المحاولات أيضاً...". النبرة الحماسية دوماً سهلة، لكنها كثيراً ما تكون مضلّلة.