العجز والقصف بالمساعدات
لم يكن ينقص أهل غزّة إلا الموت على وقْع القصف بالمساعدات، وهو ما حدَث فعلاً قبل يومين حين فشلت "عملية إنزال"، تبرّأ منها الجميع، وسقطت صناديق المساعدات على رؤوس المواطنين اللاهثين وراء لقمة تسدّ الرمق، بعدما لم تفتح المظلّات التي من المفترض أن توصل الصناديق إلى الأرض بأمان، ما أدّى إلى سقوط خمسة شهداء.
نفى "أبطال" عمليات الإنزال، أو مخترعو هذه الطريقة لإيصال المساعدات إلى أكثر من مليون مواطن عالق في قطاع غزّة، مسؤوليتهم عن "العملية"، لكنهم لم ينفوا مسؤوليتهم عن المعاناة التي يعيشها أهل القطاع، بعدما فشلوا في فرض إدخال المساعدات عبر البرّ، وهو الأمر الطبيعي لإغاثة هذا الكمّ من البشر المتكدّس في شريط ساحلي ضيق.
هذه الإسقاطات الاستعراضية، التي بدأها الأردن وانضمّ إليها آخرون، ليست عقيمة في سد حاجات أهل غزّة فحسب، بل تزيد الأزمة أيضاً، فالكمية التي يمكن إسقاطها من الطائرات محدودة في طبيعة الأحوال، ولن تكون كافيةً سوى لمئات من بين مئات الآلاف من العائلات الباحثة عن الغذاء والماء والدواء، هذا في حال وصلت المساعدات إلى الأماكن الصحيحة، فكثير من الصناديق سقطت في مناطق خارج قطاع غزّة أو في البحر، ولم يتمكّن الغزّيون من الاستفادة منها. إضافة إلى ذلك، وفي حال وصولها، ستُسبّب قلّتها اقتتالاً عليها، وهو ما حصل في أكثر من مناسبة.
ليست هذه المساعدات سوى إبراء للذمّة من المعاناة التي يعيشها سكّان غزّة، وإعلان عن "قلة الحيلة" تجاة المجزرة الإسرائيلية المرتَكبة في قطاع غزّة. لكن اللافت أن دولاً كبرى، انضمّت إلى قافلة "قليلي الحيلة" في مواجهة إسرائيل، وفي المقدّمة تأتي الولايات المتحدة، التي باتت تجاهر بعجزها أمام التعنّت الإسرائيلي، ليس في وقف إطلاق النار فحسب، بل في السماح أيضاً بإدخال بعض الشاحنات المتكدّسة في سيناء بانتظار فتح معبر رفح.
فبدلاً من الضغط في هذه الاتجاه، سيّرت الولايات المتحدة طائراتٍ لإسقاط المساعدات، وتفتقت الذهنية الأميركية عن "فكرةٍ عبقرية"، وهي إنشاء ميناء في غزّة لنقل المساعدات من قبرص. وبغض النظر عن النيّات الخفية وراء هذا الميناء، وما إن كان سيتحول إلى ممر لهجرة الغزّيين نحو أوروبا أو غيرها، فإن الفكرة بحد ذاتها لن تشكّل حلاً سريعاً لأزمة المجاعة التي يعاني منها أهل غزّة، والتي حذرت منها الأمم المتحدة قبل أيام، فالميناء المفترض أن يبنيه الجيش الأميركي، بحسب إعلان الرئيس جو بايدن، يحتاج أسابيع لإنهائه، في حال بدأ الآن، الأمر الذي لم يحصل بعد، وليس واضحاً ما الفرق بين قبرص وسيناء الأقرب كثيراً إلى قطاع غزّة، فإذا كان الأمر مرتبطاً بالتفتيش الإسرائيلي، فالأمر حاصل في سيناء أو عبر معبر كرم أبو سالم، ومع ذلك فإن آلية دخول المساعدات بطيئة جداً أو معدومة.
من المثير للجدل أيضاً إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مشاركة بلاده في عمليات إنزال المساعدات جواً على قطاع غزّة، مع أن القاهرة مسيطرة على معبر رفح ومحصّنة بقرارات عربية وإسلامية ودولية لإدخال المساعدات، غير أن السيسي أشار إلى أن هذه الخطوة "بسبب صعوباتٍ تواجه إدخال المساعدات برّاً"، مؤكّداً أن معبر رفح "مفتوح 24 ساعة". غير أن الرئيس المصري لم يحدّد ما هي هذه الصعوبات، وما إذا كانت مرتبطة بالموافقات الإسرائيلية أو معوّقات لوجستية. كذلك لم يذكُر الغاية التي من أجلها يفتح المعبر 24 ساعة، وما إذا كانت مقتصرة على خروج أهل غزّة القادرين على دفع "تكاليف" العبور إلى مصر، والتي باتت تفوق خمسة آلاف دولار للشخص.
ذرائعُ ومقترحاتٌ ومبادراتٌ و"إنزالاتٌ" لتبرير العجز وقلة الحيلة، بالحد الأدنى، وكلها لن تغيّر من واقع أن أهل غزّة سيعيشون جوعاً مضاعفاً في شهر رمضان، بعدما سقطت كل الرهانات على هدنة مؤقتة خلال شهر الصيام تخفّف من معاناة مئات الآلاف.