"العدل الدولية" انتصرت للقدس أيضاً
عقوداً طويلة أصرّ الشعب الفلسطيني، ومعه قيادته والدول العربية والغالبية العظمى من الدول، على رفض قرار إسرائيل الأحاديّة ضمّ القدس الشرقية إليها، وعلى رفض تطبيق القانون الإسرائيلي على المدينة المُقدّسة. ورفض الفلسطينيون توحيد القدس وإلغاء بلدية شرق القدس وإجبار المقدسيين على التصويت لبلدية القدس المُوحّدة فقط، ورفضوا محاولة تغيير الطابع الخاص للبلدة القديمة، وأصرّوا على ضرورة أن تحترم إسرائيل، باعتبارها دولةَ احتلال، الوضعَ القائمَ في ما يتعلّق بالحرم القدسيّ، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، والمُقدّسات الإسلامية والمسيحية كافّة.
منذ 1967، والشعب الفلسطيني يُصرّ على ذلك كلّه، في حين استمرّت إسرائيل في فرض إرادتها بقوّة السلاح وبدعم سياسي عالمي، رغم أنّ غالبية الدول لم تعترف بضمّ القدس، كما أنّها لم تنقل سفاراتها إليها، على غير ما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. وخلال تلك العقود، تساءل بعضهم عن جدوى ذلك الرفض، وكاد أن يستسلم، أحياناً، للواقع المفروض على أكثر من 350 ألف مقدسي عانوا كثيراً بسبب السياسة العنصرية، ومن رفض الالتزام بالقانون الدولي، ومن هوّة غير طبيعية بين القدس وباقي الأراضي الفلسطينية المُحتلّة.
أخيراً، جاء في قرار محكمة العدل الدولية، بأوضح العبارات، أنّ القدس مدينةٌ مُحتلّةٌ، مثل رفح وجنين والجولان، وأنّ القانون الدولي لا يعترف بأيّ من الإجراءات الإسرائيلية. وذهب قضاة المحكمة الخمسة عشر إلى أبعد، فأكّدوا ضرورة عدم اعتراف الدول في الجمعية العامة للأمم المتّحدة وفي مجلس الأمن بتلك القرارات الإسرائيلية المنافية للقانون الدولي. كما طالبوا الجمعية العامة ومجلس الأمن بالعمل على تصحيح الخطأ الذي ترتكبه إسرائيل، واستمرار الاستيطان المخالف للقانون الدولي، ونقل سكّانٍ من الدولة المُحتلّة إلى الأراضي المُحتلّة.
أكّد قضاة "العدل الدولية" ضرورة عدم اعتراف الدول بالقرارات الإسرائيلية المنافية للقانون الدولي
استند قضاة المحكمة أولاً إلى مبدأ أجمعت عليه الدول بعد الحرب العالمية الثانية، "عدم جواز الاستيلاء على أراضٍ من خلال الحرب". وكان مجلس الأمن (في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967) قد أكدّ هذه العبارة في مُقدّمة قراره 242. كما عرج القضاة على معاهدة جنيف الرابعة الخاصّة بالاحتلال طويل الأمد، وترفض مخالفات إسرائيلية كثيرة مُتعلّقة بكيفية تصرّف دولة الاحتلال تجاه الشعب المُحتلّ، وعلى قرار المحكمة نفسها في 2004 الخاصّ بعدم قانونية الجدار الإسرائيلي المبني داخل الأراضي المُحتلّة، وبضرورة إزالته وتعويض المُتضرّرين. جاء ذكر القدس الشرقية في القرار (80 صفحة) 205 مرّات، وكان لافتاً الإصرار على النص"الضفّة الغربية بما فيها القدس الشرقية". وفي البند 165، وُضِّحت أمور خاصّة بالقدس، منها موضوع الإقامات، ورفض التراخيص، فجاء فيه، بحسب ترجمة غير رسمية، "... وترى المحكمة أنّ الإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية تخلق بيئة غير مضيفة للشعب الفلسطيني لأنّ إسرائيل تتعامل مع القدس الشرقية على أنّها أراضيها الخاصّة، وتعتبر الفلسطينيين المقيمين هناك أجانب، وتشترط أن تكون لديهم إقامة سارية المفعول (انظر الفقرات 192-197). كما أن وضع القانون الإسرائيلي نظام تراخيص البناء يؤدّي إلى انتهاكها بالهدم من خلال إجراء سريع، بالإضافة إلى غرامات باهظة (الفقرات 214 - 217 أدناه). وفي 2019، صرّح الأمين العام للأمم المتّحدة بذلك على الأقلّ، وكان ثلث المنازل الفلسطينية في القدس الشرقية يفتقر إلى تصاريح بناء صادرة عن إسرائيل؛ ونتيجة ذلك، تعرّض أكثر من مائة ألف ساكن لخطر هدم منازلهم والتهجير القسري".
يلاحظ سكّان القدس، عند السير في آخر شارع صلاح الدين، أنّ دولة الاحتلال استولت على بناية خدمية، وحوّلتها وزارة إسرائيلية إلى العدل، ويلاحظ المسافر باتجاه شعفاط أنّ البناية التي بنتها الحكومة الأردنية قبل 1967 لتكون مستشفىً بدلاً من مستشفى الهوسبيس في البلدة القديمة، قد تحوّلت مقرّاً لشرطة الاحتلال. ومعروف أنّ إسرائيل استولت على مُتحف روكفلر خارج سور القدس وفي مقابل سوق الجمعة، إذ استولت أيضاً على الآثار هناك، ومنها مخطوطات البحر الميّت، في مخالفة أيضاً لمعاهدة جنيف الرابعة.
يُعتبر القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية من أكثر القرارات الدولية أهمّية، ووضع حداً نهائياً لمحاولات الاحتلال تشويه وضع الأراضي المُحتلّة بادّعاء أنّها متنازعٌ عليها. ورغم أهمّيته، إلّا أنّ القرار لن يُحدث أيّ تغيير يُذكَر من دون ترجمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن قرارات مُلزمة. المطلوب من القيادة الفلسطينية بالتنسيق مع دول عربية وغير عربية عديدة العمل على وضع خريطة طريق عملية وقابلة للتطبيق، تشمل تحويل تلك القرارات المُهمّة، وخصوصاً المُتعلّقة بالقدس، تطبيقاً يُوفّر للمقدسيين فسحةَ الأمل بأن تعود الأمور إلى نصابها، ويتوقّف النزيف المُستمرّ من استيطان وانتهاكات للمُقدّسات، وسحب الهويات، والتضييق على التنقّلات، وغيرها من مخالفات للقانون الدولي الذي لم يعد هناك أيّ إمكانية للتلاعب في معناه.
الكرة في الملعب الدولي، وعلى الفريق القانوني في الخارجية الفلسطينية، الذي يساند في الأمم المتّحدة ببراعة خبراء وخبيرات في القانون الدولي، العمل على تحقيق اختراقات يُمكن للمقدسيين أن يروها على الأرض.