العراق.. خلط وقائع وخلط أوراق!
يقال إن الرسالة "الإنذار" التي وجهها مرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، إلى القادة السياسيين في العراق، وحملها قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، أكدت وجوب الحفاظ على "وحدة البيت الشيعي"، واعتباره "خطا أحمر لا يمكن تجاوزه بأي حال، وتحت أي ظرف، لأن ذلك يعني إنهاء سلطة الأكثرية الشيعية، وغمط حقوقها والتفريط بالمذهب". وإذا صحّ ورود هذه الإشارة الملغمة في الرسالة، فإنه يعني أن فصلا جديدا أخذ يتشكّل في إطار اللعبة الجيوسياسية المتداخلة بين العراق وإيران، وقد انعكست بداياته في نشاط محموم شهدته في الأسبوع الأخير أروقة بغداد والنجف، وشملت مدياته أكثر من عاصمةٍ في المنطقة، وما زال هذا النشاط محافظا على وتيرته، في انتظار ظهور الدخان الأبيض في الحنانة في مدينة النجف، حيث يقيم زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، المعني بالموضوع، أو ربما العودة إلى المربع الأول إذا ما أصر الصدر على تمرّده وعصيانه، وهو ما ألمح إليه في إعادة نشر تغريدته الداعية إلى حكومة "أغلبية وطنية"، بعد آخر لقاء له مع وفد الإطار التنسيقي.
صحيحٌ أن المناخ السياسي الذي سبق وصول الرسالة "الإنذار" بدا متوتّرا وأكثر تعقيدا مما يُظن، وصحيحٌ أيضا أن الخلافات والاختلافات داخل الطبقة الحاكمة بلغت ذروتها، بعد إصرار الصدر على الطيران خارج السرب، عبر تبنّي فكرة تشكيل حكومة "أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، مستندا إلى حصوله على أكثرية مقاعد البرلمان الجديد، وقطيعته مع "الإطار التنسيقي" الذي يقوده خصمه اللدود، زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، إلا أن كل المؤشّرات كانت توحي بأن التسوية أصبحت بعيدة، وأن الصدريين ومن يمكن أن يتحالف معهم جاهزون لتشكيل حكومة "الأغلبية"، لكن وصول قاآني مرة أخرى إلى بغداد الذي شكّل مفاجأة للجميع قلب الطاولة، وأعاد خلط الأوراق. ولا يبدو أن ثمّة ما هو ثابت في هذا الأمر، فالأحداث اليومية في حالة سيولة، والساحة تتقاذفها الرمال من كل جانب.
الخلافات والاختلافات داخل الطبقة الحاكمة بلغت ذروتها
ثمّة أكثر من علامة استفهام وراء هذا التدخل المباشر من جانب قم، والذي اتخذ، وللمرّة الأولى، صيغة إنذار، وتحذير من أن ينفرد الصدريون وحلفاؤهم بالسيطرة على الحكومة فيما قد يصبح "الولائيون" والوكلاء، عندئذٍ، خارج الحلبة، وما يفهم من الوقائع المتداخلة أن طهران بدأت تدرك أن بغداد شرعت تضع خطواتها بعيدا نسبيا عن مركز التحكّم والقرار في قم، وربما تُفضي خطواتٌ كهذه في محصلتها إلى مزيدٍ من استقلالية القرار لدى العراقيين، وإلى الانضواء أكثر داخل المحيط العربي، ما ينعكس سلبا بالضرورة على حجم المكاسب التي تحققها طهران في الحال الحاضر، وإلى خسارة دعم بغداد أمنها القومي. ولسوف تخسر، على مدى الزمن اللاحق، سوقا تجارية تدرّ المليارات من الدولارات، وهو ما اختبرته بالفعل بعد محاصرتها من الولايات المتحدة، وتعرّضها لعقوبات دولية، إذ ظهر أن المال العراقي الذي ضمنت بغداد تدفقه إلى طهران، إن سرّا وإن جهرا، كان يصبّ في خدمة مخططات إيران ومشاريعها. ولذلك لا شيء يزعج الإيرانيين ويقلقهم أكثر من أن توقف بغداد دعمها المالي اللامحدود، بخاصة ما يدخل منه في عمليات تمويل أذرعها المليشياوية وأحزابها النافذة في المنطقة.
وثمّة حدثٌ مستجد، أمكن عطفه على كل هذه الوقائع، هو الهجوم الصاروخي الذي شنّه الحرس الثوري الإيراني على ما قال إنه قاعدة للموساد الإسرائيلي في شمال العراق، واعتراف طهران بأنها من دبّر هذا الهجوم انتقاما من إسرائيل التي كانت قتلت اثنين من كبار ضباط الحرس الثوري في سورية، وما جرّه هذا الحدث من تداعيات في إطار العلاقة بين بغداد وطهران، والإحراج الذي تعرّضت له حكومة مصطفى الكاظمي، واضطرارها لتوجيه احتجاجٍ على التصرّف الإيراني في وقتٍ كان على طهران أن تُبلغ بغداد بنيتها شن هذا الهجوم الذي استهدف بالنتيجة أرضا عراقية، وأرادت منه توجيه رسائل إلى أكثر من عاصمة وفي غير اتجاه، وربما يكون العراق هو الآخر مقصودا للاستخفاف به، ولإظهار عدم الاكتراث بما قد يصدُر منه من ردة فعل.
وعلى أية حال، قد يشكّل ما يجري عاملا مضافا لدفع القادة العراقيين للقبول بإنذار خامنئي، والعمل على تشكيل حكومة "توافقية"، يجري بعدها أخذ العراق من جديد إلى خارج محيطه العربي، بصرف النظر عما قد يظهر على السطح مستقبلا من توافقاتٍ وتبايناتٍ هنا أو هناك.