العراق من المقاومة إلى الثورة
لم يستقبل الشعب العراقي، الجيش الأميركي الغازي للعراق بالورود، كما "صوّر" المتعاونون العراقيون الذين جاؤوا خلف الدبابة الأميركية لإدارة بوش الابن، بل ومن اللحظات الأولى للغزو، ولمدة ثلاثة أسابيع، قاومت قطعات الجيش العراقي في البصرة القوات الأميركية ببسالة وشجاعة فاجأت المعتدين، ولم تختف المفاجأة حينما تقدّموا صعودا إلى العاصمة بغداد، إذ واجهوا مقاومة قطعات عسكرية متمركزة في عدة مدن، مثل الناصرية وكربلاء. أما معركة مطار بغداد التي أبلى فيها الجيش العراقي في مهاجمة القوات الغازية التي نزلت لاحتلال المطار، فكانت الصدمة الكبيرة الأولى للجيش الأميركي، وكانت إحدى أكبر المواجهات في الغزو، حتى أن قادة الجيش الأميركي استنجدوا بقواتٍ خاصة للمعركة التي لم يكونوا متهيئين لها.
وفي اليوم التالي للغزو، بدأت المقاومة الشعبية التي عُرفت بأنها أسرع مقاومة في العالم، وأكثرها إيلاما لمحتل، تفجرت عفويا من دون أي مساعدة أو عون عربي أو دولي، لتبدأ معها رحلة خسارة أكبر قوة عسكرية في التاريخ أمام مقاومة الشعب العراقي. بدأت عمليات مقاومة الغزو الموجعة والقاتلة في الفلوجة، حيث لمع اسم أحد أبطالها، الشهيد نور الدين الزوبعي، الذي عزم على الاستمرار في القتال لإخراج الاحتلال، نصب الكمائن للأرتال ونقاط تفتيش الجنود، وتفخيخ العربات وإرسالها ضد أماكن وجود القوات الأميركية، هو من فجّر وقتل جنودا ومراتب كثيرين في تفجير دورية عسكرية، وأسقط ببندقيته طائرة شينوك، وعلى متنها عسكريون بينهم رتب كبيرة، وقد جرح في هذه العملية، وألقي القبض عليه، وأدخل المستشفى تحت حراسة أميركية مشددة، ليفاجأ الحراس في اليوم التالي من تمكّن المقاومين من إخراج الزوبعي من المستشفى وتهريبه، على الرغم من الإجراءات الأمنية الاحترازية، ولم يعرفوا كيف تم ذلك، سوى أنه هرب من بين أيديهم من دون أن يلاحظوا ذلك. خرج الزوبعي من المستشفى، ليعود إلى المقاومة بعمليةٍ نوعية، أجبرت القوات الأميركية في المدينة على التفاوض مع المقاومة والانسحاب بالكامل من المدينة، إذ فجّر الزوبعي ورفاقه مركز قيادة القوات الأميركية في المدينة، والمتمركز في مركز شرطة الفلوجة، وقتل كل من فيه.
هذه العمليات، وغيرها كثير بحسب الإحصائيات الأميركية التي سجلت منذ ذلك الحين حصول مائة عملية يوميا. وذلك ما دعا وكالات الأنباء العالمية إلى الهرولة، وفتح مكاتب لها في المدينة المقاومة، لتغطي بشكل أوسع أحداث العراق التي نقلتها قناة الجزيرة بتواصل بالبث المباشر، وهو الأمر الذي أزعج كثيرا البنتاغون الذي استبق قصف مقر الجزيرة، وقتل صحفيها طارق أيوب، في أحد فنادق بغداد، ومن بعد قتل صحفي القناة الأولى الفرنسية، وصحفيين غربيين آخرين. دار اسم الفلوجة في أرجاء المعمورة، فلم يبق بلد لم يردّد شعبه اسمها، وعرفت مقاومة العراق بها، وبعملياتها البطولية وملاحم مقاومتها اليانكي الأميركي، مكروه الصورة أصلا في العالم منذ حرب فيتنام وفظاعاتها وجرائمها التي تكررت بصور أبشع في سجن أبو غريب في العراق.
مثلما انطلقت المقاومة العراقية ضد الغزو الأميركي بسرعة، لم تتأخر الاحتجاجات ضد الاحتلال الإيراني، إذ اشتعلت منذ 2011
لم يترك مقاومو العراق جرائم هذا السجن التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا من دون عقاب ولا مواجهة، فقد حاصروا السجن مرات، وأبكوا من فيه من عسكريين نساء ورجال كانوا يتوسلون سجناءهم كي لا يقتلوهم ولا يعذبوهم بطرقهم هذه إذا ما تم الاستيلاء على السجن وتحرير السجناء. وفي مقابلة لي مع أحد سجناء أبو غريب في الفلوجة، قال لي: قال لنا جنود أميركان نترجاكم، سنعطيكم كل أسلحتنا وما نملك، لكن لا تقتلونا! روى لي هذا السجين الشاب الذي قطعت ذراعه وإحدى ساقيه أنه كان مع أربعين معتقلا قتلوا جميعهم بعمليات إرهابية أميركية داخل السجن بصاروخ، وهم يؤدون صلاة الجمعة. ويبدو أن هذه كانت واحدة من طرق الجيش الأميركي لتصفية رجال العراق.
في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2009، وفي محافظة ديالى التي تصفها إحدى أشهر أغاني المقاومة بأن "نصف الطك لديالى"، بمعنى أن نصف عمليات المقاومة كانت تدور فيها، حدثت أكبر عملية للمقاومة، حسب جنرال أميركي شارك في مواجهتها، إذ صرح لصحيفة أميركية "خرج لنا المقاومون مثل الأشباح لا نعرف كيف ولا من أين، واستغرقت العملية أربعة أيام، استعملنا فيها الطيران، وحشدنا لها 3500 عسكري". منذ بداية عمليات المقاومة هذه، فهم جنرالات الجيش الغازي أن العراق فخ لقواتهم، وهم الذين اعتقدوا أن مهمة السيطرة علية أمر يسير، لذا أرسل مبعوثا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، الوزير الأسبق جيمس بيكر والسناتور لي هاملتون إلى العراق، ومكثا ثلاثة أشهر مع القادة العسكريين، ليقدّما بعدها ما سمّي "تقرير بيكر هاملتون" يطلبون فيه الانسحاب من العراق، ويتضمن مقترح السناتور في حينه، جو بايدن، تقسيم العراق، والذي صوت عليه 75 سيناتور من مجلس الشيوخ. كما أن الجمهوري روبرت غيتس الذي كان وزيرا للدفاع في ولاية الرئيس الديمقراطي، أوباما، في آخر يوم له في عمله، حضر حفل تخرّج نخبة من الضباط، خطب فيهم قائلا: في المستقبل، لا تنصحوا أي رئيس أميركي بشن حرب مثل حربي العراق وأفغانستان. وبعد عام من وجوده، هرب الحاكم المدني للعراق، بول بريمر، الذي كاد أن يُقتل في إحدى عمليات المقاومة، بعد أن أصدر قراراته سيئة الصيت التي نفّذها مجلس الحكم الذي تم تشكيله لحكم العراق، ومن عمليته السياسية الطائفية التي تستمر منذ 18 عاما، وتديرها إيران.
أسرع مقاومة في العالم، وأكثرها إيلاما لمحتل، تفجرت من دون أي مساعدة أو عون عربي أو دولي
ومثلما انطلقت المقاومة العراقية ضد الغزو الأميركي بسرعة، لم تتأخر الاحتجاجات ضد الاحتلال الإيراني، إذ اشتعلت التظاهرات منذ العام 2011، وانتقلت شرارتها إلى باقي مدن الجنوب. ومن مدن كربلاء والنجف، هتفت الجماهير الغاضبة "باسم الدين باكونا الحرامية" لتسقط بهذا الهتاف قدسية الشخصيات والأحزاب الدينية المصنوعة في إيران التي تحكم العراق وتتحكم فيه وتنهبه. تحت الشعارات المطلبية للخدمات، كانت وما تزال تمور إرادة تحرير العراق التي تبلورت احتجاجا بعد احتجاج، وتظاهرة بعد تظاهرة، حتى اندلعت ثورة تشرين العظيمة في عام 2019، فهزّت أسوار المنطقة الخضراء، وأرعبت إيران. وهتف شبابها "إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة"، وأيضا "انعل أبو إيران لأبو أمريكا". ملحمة ثورة تشرين التي سُطرت بدم الشباب والشابات هي المقاومة الشعبية التي لم يتخلف عنها أي مكوّن عراقي، شاركت فيها جميع الأطياف والمكونات، منهم من نزل من كركوك ومن أربيل، ومنهم من صعد إلى بغداد من الجنوب أو بالعكس، شباب مسلمون ومسيحيون رماهم القناص الولائي والإيراني، وقتل منهم أكثر من ألف شاب وشابة، وجرح ثلاثون ألفا خلال بضعة أسابيع، وغيب مئات في سجون عصابات المليشيات التابعة لطهران. أجبرت الثورة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، وحكومته، على الاستقالة، وطالبت بتنحّي برلمان وأحزاب العملية السياسية التي أتى بها المحتل من أجل إقامة حكومة وطنية، ودولة حقيقية ذات سيادة ودستور جديد، تبني العراق على أسس التعدّدية الحزبية، وتداول السلطة بشكل حقيقي، وليس بالطائفية والمحاصصة وعمليات التزوير. وعلى الرغم من القتل والقمع، عادت التظاهرات وبشدة قبل إجراءات كورونا، واحترام الشباب المتظاهر إجراء التباعد، وحتى بعدها، وما زالت مستمرة، تنظم صفوفها وتطور أفكارا لإنهاء عملية الاحتلال الأميركي الإيراني بطريقة سلمية أو غيرها إذا اقتضى أمر تحرير العراق ذلك. لم يعد لثوار تشرين أي أوهام بشأن العملية السياسية التي دمرت العراق تدميرا كاملا، وهي مستمرّة. وعلى الرغم من أن خيارهم السلمي كان أمرا أساسيا في استمرارهم في التظاهرات والاحتجاجات، لكنهم اليوم يناقشون بدائل أخرى، هم من سيقرّرها. ولقد أثبتوا، طوال أكثر من عام ونصف، ومنذ بداية الثورة، أنهم نعم الرجال ونعم الثوار، وكفء لكل عمل ناجح. لقد أذهل العراقيون العالم بمقاومتهم الغزو الأميركي، ويدهشون اليوم العالم بثورتهم التي انطلقت، ولن تتوقف، على الرغم من الهدوء النسبي المؤقت الذي تغلي تحته النفوس.
هذه أصواتهم ما تزال تهتف اليوم في بغداد والبصرة وكربلاء وذي قار: "لا ما نرجع خل يسمعون، ما يهمنا شراح تسوون، للعراق انطيه اثنين عيون"، و"هذا وعد، هذا عهد ويه الخضراء النا طلابة"، و"وعد وعد الأحزاب ما تبقى بعد".