العرب والمستبدّ الذي يرى نفسه عادلاً
يعدّ مفهوم المستبد العادل من المفاهيم ذات الطابع الإشكالي، قيل إنّ له أصلاً في التراث العربي الإسلامي، ونُقل عن مفكّرين مصلحين مسلمين في العصر الحديث، من أمثال عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، وجمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، لم يكن في أي يوم، في تعريفه، موضع اتفاق الباحثين والمهتمين، وخصوصاً في مجال الفلسفة السياسية، سيما بعد أن استعمله ملوكٌ وحكّام في التجارب السياسية العربية، محاولة لتأكيد شرعية حكمهم، والإيحاء بأنّ حكمهم يقوم على فضيلتي القوة والعدل معاً.
من يرجع إلى مقال الشيخ محمد عبده في مجلة الجامعة العثمانية سنة 1899، وعنوانه "إنما ينهض بالشرق مستبدّ عادل"، وسعى فيه إلى الإقناع بحاجة الشرق، ويُقصد به العالم الإسلامي خصوصا، إلى زعيم ذي صولة وقائد ذي طول يأمر فيُطاع، ويحكم فتنفذ أحكامه، حتى وإن تسلّح بعصا الاستبداد، يدرك أن التفسير الخاطئ لهذا المفهوم، وتوظيفه بشكلٍ يتناقض مع التراث الإسلامي نفسه، ومع كتابات هؤلاء المصلحين والمفكّرين قديماً وحديثاً، كان مدخلاً لا لظهور هذا "العادل المزعوم"، بل لظهور الزعامات المستبدّة التي عرفتها بعض الدول العربية بعد استقلالها المباشر عن الاستعمار الغربي، والتي تحترف الظلم في محاولةٍ منها لتمريره في ثوبٍ من الإصلاح، فادّعى بعضها إحياء المشروع القومي، وزعم بعضها الآخر التأسّي بالسلف الصالح من الراشدين، ثم لم يكن منها سوى الاستبداد بالأمر، وإخضاع الشعوب تحت دعاوى الوحدة والعدل والقومية العربية، والانقلاب على القيم الإسلامية، وفي مقدمتها الشورى، وممارسة الشعبوية. ومن يرجع إلى التاريخ العربي المعاصر يرى عديدا من هذه النماذج، ممن روّجهم بوصفهم نماذج عن المستبدّ العادل، كالرؤساء الراحلين، المصري جمال عبد الناصر، والتونسي الحبيب بورقيبة، والجزائري هواري بومدين، إلى جانب الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد، الذي يصوّره بعض أنصاره، ومؤيدّو انقلابه في 25 يوليو/ تموز 2021، مستبدّا عادلا قادرا على إنقاذ تونس من مأزقها الحالي، على الرغم من أنّه، وغيره من الحكّام العرب، لم يحقّقوا العدل ولو جزئياً، فما رأيناه سابقاً وما نراه اليوم من معظم حكّامنا العرب لا يمتّ للعدل بأي صلة، على اعتبار أنّ العدل يقتضي بسط الحريات في المجتمع، حتى للمخالفين، والنزاهة في الاختلاف، والتزام مصلحة الوطن، حتى لو تناقضت مع المصالح الشخصية والعائلية.
لا أساس لفكرة المستبدّ العادل في وطننا العربي، فالعدالة لا تجتمع مع الاستبداد
وبالتالي، المستبدّ العادل أحد الأوهام التي تروّجها الشعبوية وبعض القوى الرجعية في معرض عدائها الديمقراطية، في كثير من خطاباتها، والتي يمكن القول عنها إنّها خطابات المنافقين الذين يحاولون أن يُضفوا على المستبدّ وسياساته أوصافاً ليست له. ولنا في ثورات الربيع العربي، في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية والسودان، كمحاولة شعبية لمواجهة الاستبداد السياسي للحكّام العرب، خير دليل على ذلك، بعد أن تمكّنت بعض القوى الرجعية بدعم من الأنظمة العربية الحاكمة من تحويل بعض هذه الثورات إلى حروبٍ أهليّة، كسورية وليبيا واليمن، وإيقاع بعضها بعد نجاح جزئي، في براثن الثورات المضادّة كمصر والسودان، وكذلك في تونس بعد انقلاب قيس سعيّد غير الدستوري في 25 يوليو/ تموز 2021، والذي يحاول منه التأسيس لنظام سياسي جديد، يخرج عن نظريات الحكم والديمقراطيات القائمة في العالم، وذلك بمنح سعيّد نفسه صلاحياتٍ واسعة تضرب في مقتل مبدأ التوازن بين السلطات الثلاث المتعارف عليها في الأنظمة الديمقراطية، ويتحوّل فيه الرئيس إلى "الحاكم بأمره" أو "الموظف الأعظم للدولة" بصلاحياتٍ مطلقة، باعتباره صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الدولة، ويتحكّم في كل مفاصلها، ولا يُسائله أحد، في حين أن الجميع مسؤول أمامه.
في المحصلة، لا أساس لفكرة المستبدّ العادل في وطننا العربي، لأنّ العدالة لا تجتمع مع الاستبداد تحت سقف واحد، فالاستبداد هو الحكم المطلق أو ما يؤدّي إليه، وهذا، بحد ذاته، كفيلٌ بنسف الحرية، والعدالة إن وجدت فيه، والتجارب المعاصرة، التي خاضتها الدول القُطرية في العالم العربي المعاصر، أكّدت ذلك، وأثبتت أيضاً أنه لا سبيل إلى تحقيق الإصلاح والعدل، إلا بنهج الشورى، وإقامة السياسة على القواعد والقيم الديمقراطية الحقيقية، وليس على القيم الاستبدادية، فلا مجال في هذه التجارب للتعايش بين العدل والاستبداد. لذلك لا تصحّ مقولة المستبد العادل عقلاً وأخلاقاً، وخصوصاً في وطننا العربي، حيث ظاهرة الاستبداد متجذرة في الثقافة العربية وتتمظهر في أشكال مختلفة، لذلك لا يجوز إضافة قيمة العدل بجماليتها وسموّها إلى وصف الاستبداد بكل ما فيه من ظلم وظلام.