العرب وعضّ الأصابع بين واشنطن وطهران
أنهى الرئيس الأميركي، جو بايدن، جولته الشرق أوسطية من دون أن يحقق الهدف الرئيس الذي جاء من أجله، وهو زيادة إنتاج النفط واستعادة مملكة محمد بن سلمان، الذي انطلق مباشرة في جولة أوروبية تثبيتاً للنهج المختلف ولدور سعودي مستقل، وبحثاً عن أسواق إضافية لاقتصاد بلاده وإنتاجها النفطي. اعترف بايدن أنّ ترك المنطقة كان خطأ، وحاول طمأنة الحلفاء والأصدقاء أنّ الولايات المتحدة عائدة، فهل اغتيال زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، الذي أعلن عنه شخصياً برهانٌ على ذلك؟ وكان اغتيال أسامة بن لادن في مايو/ أيار 2011 قد شكّل، على العكس، تمهيداً لبدء انسحاب باراك أوباما من العراق، وثم المنطقة في نهاية ذلك العام. أما خلفه دونالد ترامب فقد ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، باغتياله قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. كما من اللافت أنّ خليفة الظواهري هو على ما يبدو مصري آخر يدعى سيف العدل، يقيم في طهران؟ فهل من رابط بين الأمرين؟ النقطة التي بقيت عالقة خلال محادثات بايدن في إسرائيل هي كيفية ردع إيران عن امتلاك السلاح النووي، ففي حين أصرت تل أبيب على المواجهة العسكرية إذا اضطر الأمر، كرّر البيت الأبيض الكلام على استعمال الطرق الدبلوماسية. وقد شكل هذا التباين نوعاً من النافذة التي أبقت الأمل مفتوحاً بالنسبة لإيران التي تراهن على العودة إلى الاتفاق النووي الذي يعتبر بمثابة خشبة خلاص لها للخروج من نفق العقوبات واستعادة بعض الأوكسجين لاقتصادها ولمستلزمات عيش شعبها المحاصر والمقموع والمعدم. وقد أدى هذا الأمل إلى حالة من الإرباك والشلل على مستوى ملفات المنطقة، حيث لإيران أظافر وأذرع ومليشيات وسيطرة شبه كاملة في عدد من البلدان، وتحديداً التي ادّعى غير مسؤول إيراني سيطرة الملالي عليها.
وهذا الإرباك على أشدّه في العراق الذي يشهد تبدلاً جوهرياً في علاقة إيران التي بدأت تفقد السيطرة على بعض القوى والفصائل الشيعية، لا بل هذا مقتدى الصدر قد خرج متحدّياً نفوذ طهران، ويخوض معركة تحجيم التيارات الشيعية وشقّ صفوفها، إلى درجة أنّ بعضهم يتخوف من أن تتدهور الأمور وتنزلق نحو مواجهة شيعية - شيعية. وهذا الاحتمال الخطير الذي من شأنه أن يشكّل انتكاسةً كبرى لإيران هو الذي دفعها إلى إرسال قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، على وجه السرعة، إلى بغداد لمعالجة الأزمة من دون أن يحقق نجاحاً يذكر، فيما استدركت بعض الفصائل، في اللحظة الأخيرة، وقرّرت سحب متظاهريها من أمام المنطقة الخضراء. ما يجري في بغداد هو تأكيد على أن معادلة السيطرة والسلطة بدأت تشهد اصطفافاً جديداً يقوده حليف سابق لطهران، ويشكل أكثرية شيعية - سنية - كردية في وجه التيارات التابعة لها التي باتت تبحث عن طريقة ما تمكّنها على الاقل من انتزاع القدرة على التعطيل، تمثلاً بالبدعة اللبنانية المعروفة بـ"الثلث المعطّل" التي ابتدعها الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) داخل مجلس الوزراء. لن يتخلى الملالي عن دورهم وتأثيرهم في الساحة العراقية التي تشكل المنفذ الرئيسي والشريان الحيوي لهم على المنطقة منذ أكثر من عقد، بعدما أحكموا قبضتهم على حكومتها وأجهزتها وعلى "الحشد الشعبي" الذي اخترعوه كجيش مليشياوي موازٍ. وفي الوقت نفسه، تشكل بغداد الآن طاولة لمفاوضات ثنائية مع السعودية، تمكّن من عقدها رئيس الحكومة الإصلاحي والبراغماتي، مصطفى الكاظمي، الذي يتحرّك بين النقاط بحنكة ورباطة جأش، داخلياً وإقليمياً. وبطبيعة الحال، ليست الولايات المتحدة بعيدة عما يجري، لا بل هي ترعاه ومشجّعة له. لكن، أين يقف الصدر من كلّ هذه الاعتبارات، وهل أصبح في مرحلة اللاعودة، وإلى أين يريد أن يصل؟ وهل قرّر الذهاب إلى مواجهة مباشرة مع الملالي؟ هذا هو اللغز الذي يقلق طهران ويضطرّها إلى المهادنة والانتظار.
وفي اليمن، تسود الهدنة منذ أربعة أشهر ارتضتها طهران بداية حسن نية تجاه الرياض، من أجل تمهيد الطريق لفتح خطوط مباشرة معها، كما حصل لاحقا، ونظرا إلى أن الحوثيين استنزفت قدراتهم على الصمود والقتال، وأيضا بسبب الفظائع التي ارتكبوها، والأهم أنّ واشنطن قررت الدخول على الخط والضغط بقوة بعد طول تردّد، لا بل امتناع بايدن عن دعم السعودية، لم يعد اليمن بالتالي ملفاً قابلاً للمقايضة.
حاول أرباب النظام السوري وحاضنوه وداعموه ترويج أنّ بشار الأسد بات يسيطر على ثلاثة أرباع الأراضي السورية، ولا بد بالتالي من إعادة تعويمه عربياً وإقليمياً
وفي سورية، تسود حالة من الفوضى التي تجنح نحو التدهور، وربما إلى مواجهة من نوع آخر. وقد حاول أرباب النظام السوري وحاضنوه وداعموه ترويج أنّ بشار الأسد بات يسيطر على ثلاثة أرباع الأراضي السورية، ولا بد بالتالي من إعادة تعويمه عربياً وإقليمياً، من خلال إعادته إلى جامعة الدول العربية، ومن خلال ترميم بعض العلاقات الثنائية مع الإمارات ولبنان الذي يضغط فريق السلطة فيه إلى إعادة النازحين السوريين بالقوة، بحجّة أنّ سورية أصبحت آمنة، وأنّ بشار سيقدم لهم كلّ التسهيلات اللازمة... وحتى زيارات بعضهم إلى دمشق، وغيرها من أدوات التجميل والمساحيق، ناهيك عن الزيارات المتكرّرة للحاضن الإيراني الذي يهيمن على القرار وعلى قسم من ألوية كتائب الأسد، فيما مليشياته، وفي مقدمها مسلحو حزب الله، منتشرة في طول البلاد وعرضها، وعلى الحدود مع لبنان، واستطراداً الى الشمال السوري، حيث تسود شريعة الغاب بين من يدّعون أنهم يحمون سورية ووحدة أراضيها وأعادوا الاستقرار إليها. شمالي سورية يمكن أن يشهد بين يوم وآخر مواجهة حامية بين حلفاء النظام ومعارضيه وحماته أنفسهم، أي روسيا وتركيا وإيران الذين يتنازعون على تقاسم مناطق النفوذ بحجّة تطويع الأكراد "الإرهابيين" فيما تعلن واشنطن أنّها مستمرّة في احتضانهم. أما إسرائيل فتستمر بغاراتها المتكرّرة على مواقع لإيران وحزب الله في ضواحي دمشق، وأينما وجدت مواقع ومخازن أسلحة لهما. هذه هي سورية التي أصبحت "سوريات" تحت سيطرة خمسة جيوش أجنبية، رغم ادعاءات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تدخل عسكرياً منذ نحو سبع سنوات (30 سبتمبر/ أيلول 2015) لمنع سقوط النظام والحفاظ على وحدة سورية، وإذ بها تتناثر إلى دويلاتٍ يضاف إليها مناطق تحكمها مجموعات إرهابية ودواعشية وعصابات التهريب، والجرائم والنهب والقتل. سورية إذا التي كان يحلم بها الملالي محمية إيرانية عند وراثة بشار السلطة أصبحت مجموعة محميات، كل منها تهدد الأخرى، وباتوا، بالتالي، مضطرّين للبحث عن تسويات مع حلفاء لكل واحد منهم مصالحه التي تتعارض مع مصالح الآخر، بعدما وسّع الغزو الروسي لأوكرانيا الخلافات بين هذه الدول وعمّقها، وبات طموح إيران التقرب من واشنطن، لأن مفتاح رفع العقوبات هو مع بايدن، وليس مع بوتين.
ما يجري في بغداد تأكيد على أنّ معادلة السيطرة والسلطة بدأت تشهد اصطفافاً جديداً يقوده حليف سابق لطهران
أما في لبنان، حيث للملالي النفوذ الأهم والأفعل، فإنّ حزب الله يعيش حالة نشوة في الداخل، بعدما أصبح ممسكاً بزمام السلطة، منذ فرض ميشال عون رئيساً عام 2016، ويقرّر نوع الحكومات التي تتشكل والأكثريات النيابية التي تسيطر على البرلمان، والإنجاز الأهم هو إخراجه سعد الحريري من السلطة ومن الحياة السياسية بالكامل، وانفراط عقد تياره السياسي، ويتحمّل الحريري نفسه جانباً من هذه المسؤولية. أما الحالة المسيحية فقد حولها حزب الله إلى مجرّد مجموعة أحزاب فاشلة متنافسة ومتناحرة، تسعى إلى زيادة عدد الكراسي والمقاعد. ضحلة، تتلهى بالصغائر، لا أفق لديها ولا رؤية سياسية. ارتضت أن تغرق في شرنقتها الطائفية، وتوهم جمهورها بأنها تدافع عن "حقوق المسيحيين"! أما وزنها بالتالي في الحياة العامة فهو إما التأييد او الاعتراض على ما يفعله حزب الله. غير أن هذه اللعبة بدأت تضيق الآن أمام الحزب مع اقتراب موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مع بدء العد العكسي في الأول من سبتمبر/ أيلول المقبل، وعدم تمكن حليفه رئيس الجمهورية من فرض الحكومة التي يريد لنهاية عهده، فظروف اليوم ليست كما كانت عام 2016، بدءا من انهيار البلد اقتصاديا وماليا ومعيشيا ومؤسساتيا واكتشاف جزء كبير من اللبنانيين أن أسباب غرق البلد هي في أن حزبا مسلحا يهيمن على القرار، ويحمي الفساد والفاسدين، ما أدّى إلى إيصال مجموعة من النواب الجدد من ممثلي حركة انتفاضة 17 تشرين 2019 وأحدث تعديلا في موازين القوى داخل البرلمان لصالح المعارضة. يضاف إلى كل ذلك المأزق الذي يجد لبنان نفسه فيه، أي مسألة ترسم الحدود البحرية مع إسرائيل، أملا وطمعا باستخراج النفط والغاز الموعودين، علما أن إسرائيل أنهت منذ سنوات عمليات التنقيب، وتستعد لاستخراج النفط والغاز في نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل، في حين أن لبنان يلزمه، في حال بدأ التنقيب غدا بين ست وسبع سنوات، لكي يبدأ بالاستخراج. وبما أن إسرائيل مستعجلة للاستخراج والبدء بالتصدير، وقد عقدت اتفاقا منذ أسابيع مع الاتحاد الأوروبي لتزويده بالغاز، فإن مصلحتها هي أن تجد تسوية لهذا النزاع مع لبنان في أسرع وقت، كما أن الولايات المتحدة التي تقوم بدور الوسيط تضغط باتجاه تسريع الاتفاق، والحفاظ على أمن إسرائيل وتجنيبها أي مغامرة عسكرية، إلا أن أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، يهدّد بالحرب، في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق قبل نهاية سبتمبر/ أيلول ليوهم اللبنانيين بأنه يخوص معركة الدفاع عن حقوق لبنان، وإن تهديده هو الذي يفرض الحل، علما أنه يعلم أن تهديده والقدرة على الحسم ليسا في يده، وإنما في يد طهران التي لا تريد أن تغضب واشنطن، أملاً في العودة إلى طاولة مفاوضات النووي، وكذلك في الملف الرئاسي. لذلك، المرحلة المقبلة هي مرحلة الرسائل المشفّرة وعض الأصابع بين واشنطن وطهران.