العسكر ساسةً في إسرائيل
تشهد الحلبة السياسية الإسرائيلية في الوقت الحالي تضخمًا غير مسبوق في كمّ الأحزاب الجديدة التي تنوي خوض الانتخابات العامة القريبة يوم 23 مارس/ آذار المقبل، وستكون الرابعة خلال أقل من عامين. ولعل أبرزها حزب "الإسرائيليون" الذي أقامه رئيس بلدية تل أبيب، رون خولدائي، وسرعان ما انضم إليه وزير العدل، آفي نيسانكورن، الذي انفصل عن حزب "أزرق أبيض"، واستقال من منصبه، والنائب السابق لرئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، اللواء دان هرئيل، وغيرهما.
عرض خولدائي، أول من أمس الاثنين، الخطوط العريضة لبرنامج حزبه الجديد هذا. وخلال ذلك، حرص على أن يتباهى بماضيه العسكري طيّارًا مقاتلًا وقائدًا في سلاح الجو الإسرائيلي، مؤكدًا أنه اشترك في أربع حروب من التي خاضتها إسرائيل، وأنه إذا كان مُجرّد ذلك يؤهله، لكي يُحسب على معسكر اليمين، فلن يبهظه الأمر بل يفرحه. وبطبيعة الحال، ليس خولدائي أول شخص يقرّر دخول معترك السياسة في دولة الاحتلال، وتسويق نفسه عبر الاتكاء على ماضيه العسكري، من ضمن أمور أخرى، وهو بالتأكيد لن يكون الأخير. كما أنه يأتي على ركام قائمةٍ طويلةٍ من السياسيين، سواء في جولات الانتخابات العامة الأخيرة، أو التي سبقتها.
على مستوى الوقائع، يمكن الإشارة إلى أن أول رئيس حكومة لدى إقامة إسرائيل عام 1948، ديفيد بن غوريون، قرّر نمطًا يكون رئيس الحكومة بموجبه محتفظًا بحقيبة وزارة الدفاع. واستمر هذا النمط 19 عامًا متواصلة، غير أن تعيين موشيه دايان في منصب وزير الدفاع، عشية حرب حزيران (1967)، شكّل نقطة انعطاف في هذا النمط من ناحيتين: الفصل بين وظيفة رئيس الحكومة ووزير الدفاع. وتعيين شخص ذي ماضٍ عسكري كبير في وظيفة وزير مدنيّ. ومنذ هذا التعيين أصبحت "سابقة دايان" النمط السائد. ومن الزاوية الإحصائية، انعكس الأمر في أن قادة سابقين كبارًا في الجيش الإسرائيلي أشغلوا وظيفة وزير الدفاع في أغلب الوقت المنقضي منذ 1967، بموازاة ظاهرة دخول العسكر الحلبة السياسية بعد اعتزال نشاطهم العسكري.
ومنذ ذلك الوقت، تشكّل هذه السيرورة موضع جدل، وتثير تساؤلاتٍ كثيرة، في مقدمتها التساؤل بشأن إمكان الفصل بين المستويين، المدني والعسكري، وأين يمرّ ذلك الخيط الرفيع؟ وكيف ينبغي التعامل مع شخصٍ انتقل من المستوى العسكري إلى المستوى المدني؟ وكذلك التساؤل إلى أي مدىً يبقى العسكري حتى بعد انتقاله من المستوى المدني عسكريًا في توجهاته. في هذا الصدد، ثمّة من يؤمن بمقاربة أن "العسكري يبقى كذلك طوال حياته"، وفي حال الأخذ بهذه المقاربة، لا شك في أن لها مغزى بعيد الأثر في ما يتعلق بإسرائيل، وأن الانتقال المستمر والواسع النطاق لكبار ضباط الجيش إلى مواقع القيادة السياسية إنما يدل على عملية عسكرة السياسة في إسرائيل. ويتعلق تساؤل آخر بما إذا كان العسكر هم الذين يتسلّلون إلى مجالاتٍ ليست من اختصاصهم، سعيًا إلى زيادة نفوذ الجيش والمقاربة الأمنية، وبما إذا كانت هذه القضية/ المشكلة ليست نابعةً من القوة النسبية للجيش في دولة الاحتلال، وإنما بالذات من الضعف النسبي للمؤسسات المدنية فيها. وهو ضعفٌ يترك فراغًا في الساحة يشجّع المستوى العسكري على التحرّك بغية ملئه.
من ناحية ظاهرية، يبدو برأي كثيرين أن الإمكانية الثانية تفسّر واقع العسكر والساسة في إسرائيل بصورة أفضل. وهو سؤالٌ يبقى مفتوحًا في النقطة الزمنية الراهنة برسم تحوّلات كثيرة، منها مثلًا التحولات المرتبطة بجوهر المخاطر الأمنية على المستوى الإقليمي، وبماهية التحديّات الماثلة أمام الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية التي ألقت جائحة كورونا بظلالها عليها، وإنْ ليس بصورة حصريّة.
مهما يكن، إذا كانت الأمور هي على هذا النحو فعلًا، فهذا يعني أن نظام العلاقات بين المستويين، المدني والعسكري، في إسرائيل، غير ناجم عن عدم فرض قيود على المستوى العسكري فقط، إنما أيضًا عن هشاشة المؤسسات والهيئات المدنية.