العشائر في الأردن .. انقلاب "الدور السياسي"
يؤشّر الناشط الشبابي المثقّف، محمد الزواهرة، إلى ملاحظةٍ مهمةٍ على هامش بيان ائتلاف العشائر الأردنية للإصلاح المعلن أخيرا (في الذكرى العاشرة لتأسيس الائتلاف)، فالبيان كتب بلغة سياسية قوية ومتماسكة، فيه سرديةٌ نقديةٌ مهمةٌ للوضع الحالي في البلاد. والأهم من ذلك أنّه يخرج عن التأطير النمطي الذي أريد وضع الخطاب "العشائري" فيه بوصفه إمّا موالياً لكل السياسات الرسمية، مهاجماً للمعارضة، أو بوصفه خطاباً يمينياً يقوم على التخوّف من المكونات الاجتماعية الأخرى، أو تفوح منه رائحة العنصرية. على النقيض من ذلك، تحدث البيان عن المواطنة الشمولية بوصفها أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، وطالب بملكيةٍ دستوريةٍ تقوم على "دسترة الحكومات البرلمانية"، وعلى رفض "التفرّد في القرار"، وعلى نقض ما آلت إليه الحكومات، إذ أصبحت بمثابة "سكرتارية تنفيذية"، وليست حكوماتٍ سياسيةً تتحمّل مسؤولياتها الدستورية في البلاد.
أهمية البيان الصادر أخيرا أنّه يأتي بعد أزمتين عاصفتين أقضّتا مضجع الجميع في الأردن؛ قضيتي الأمير حمزة والنائب السابق أسامة العجارمة المعتقل حالياً، وكلتاهما نبّهتا إلى أنّ العلاقة بين النظام والعشائر التي مثّلت تاريخياً القاعدة الاجتماعية الصلبة له تغيّرت تماماً، بل قُلبت رأساً على عقب، فأصبح الحراك الموجود في المحافظات (تعدّ حاضنة للبنية العشائرية في الأردن) الشرس والمعارض ذو السقوف المرتفعة هو الأكثر حضوراً وتأثيراً في المشهد الأردني.
لم يكن هنالك وحدة هرمية أبوية، خلال العقود السابقة، منذ بدأت الدولة بالفعل ترسّخ أقدامها، وتثبّت جذورها في المجتمع
بالتأكيد، ثمّة فروقٌ واضحةٌ تماماً بين الخطاب الذي استخدمه النائب المفصول العجارمة وخطاب الإصلاح الحالي، وبين خطابات صُنّفت، خلال الأعوام الماضية، بأنّها تنتمي إلى "يمين اليمين"، وهو اتجاهٌ يغازل هواجس أبناء العشائر، من منظور هوياتي مقلق للجميع، فيما يأتي هذا الخطاب اليوم (ائتلاف العشائر) مع تحولاتٍ ملحوظةٍ على خطاب الحراك في المحافظات، ليتلبّس طابعاً سياسياً مختلفاً عن كل ما سبق، يربط نفسه بمفاهيم الديمقراطية والإصلاح السياسي، وفي الوقت نفسه، بسقوف مرتفعة أعلى من التي كانت تدعو إليها المعارضة التقليدية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين التي ما تزال تنظر إليها مؤسسات النظام بوصفها "الخصم الرئيس".
يشير ما سبق، أيضاً، إلى أهمية التمييز علمياً وواقعياً بين "العشائر" و"تعشير الدولة" سياسياً؛ فالعشائر بوصفها بنية مجتمعية ليست وحداتٍ أو أحزابا سياسية صلبة، ولا تتعامل على هذا الأساس، في الأصل، وتجد، تاريخياً، في كل عشيرة أردنية، مختلف الألوان السياسية والفكرية والثقافية، من هو معارض، ومؤيد، شيوعي وإسلامي وقومي .. إلخ.
لم يكن هنالك وحدة هرمية أبوية، خلال العقود السابقة، منذ أن بدأت الدولة بالفعل ترسّخ أقدامها، وتثبّت جذورها في المجتمع، في النصف الأول من القرن العشرين، وفي مرحلة التحديث، في عهد الراحل الحسين، النصف الثاني، بدأت الروابط المدنية والاقتصادية والبيروقراطية تحل محلّ الروابط الاجتماعية العشائرية في علاقات الناس ببعضهم.
أصبحت ما تسمى سياسات "الاسترضاء" عبئاً كبيراً على الدولة اقتصادياً، فلم تستطع الاستمرار بها، وتحوّلت نحو خطاب جديد يقوم على التشغيل بديلاً عن التوظيف
المفارقة تكمن، هنا، في أنّه بعد ذلك النجاح في تعزيز مفاهيم الدولة والمواطنة والمؤسسات، عادت السياسات الرسمية، في مرحلة لاحقة، إلى "اختراع" العشائرية لمواجهة المعارضة، وضمان وجود قاعدة صلبة من الموالاة الكاملة للسياسات الرسمية، تلك اللعبة التي استُخدمت عقدين بصورة ملحوظة (منذ التسعينيات إلى لحظة الربيع العربي) انقلبت إلى الضد تماماً في مرحلة لاحقة.
أصبحت ما تسمى سياسات "الاسترضاء" عبئاً كبيراً على الدولة اقتصادياً، فلم تستطع الاستمرار بها، وتحوّلت نحو خطاب جديد يقوم على التشغيل بديلاً عن التوظيف، وعلى التحلّل من العلاقة التاريخية بتأمين الوظائف، ما انعكس، في المقابل، على الأوضاع الاقتصادية في المحافظات ورفع منسوب البطالة، وفاقم الفجوة الطبقية بين عمّان والمحافظات، وانبثقت عنها خطابات متضاربة في المحافظات؛ سواء يمين اليمين، أو الخطاب الإصلاحي الذي يتبنّاه جيلٌ مسيّس صاعد في أوساط المحافظات المختلفة، بينما حاولت سياسات الدولة الإبقاء على العلاقة السابقة (الولاء الكامل)، وتجاهل التحولات الكبرى البنيوية في هذه العلاقة.
من الظلم والإجحاف، إذاً، اختزال ما يحدُث في المحافظات من خطاباتٍ وحراكاتٍ وتحولاتٍ بلونٍ واحد، أو بجملة واحدة "العشائرية"، لأنّنا في مشهد أكثر تفصيلاً ومتحوّل ومتعدّد. وأمام جيل شبابي صاعد مختلف ومغاير في المحافظات جميعاً، يكتوي بنار البطالة والفقر والتهميش الاقتصادي والسياسي، فقد "صحا" وعيه الجيلي على توقف الدولة عن تقديم الوظائف مع غياب واضح للقطاع الخاص وفرص العمل في المحافظات، وضعف العملية التعليمية التي تؤهله للاندماج في الاقتصاد المعولم المهيمن في الأردن.
خطاب "العقد الاجتماعي الجديد" لعمر الرزاز جاء متأخراً غير مبرمج بصورةٍ عمليةٍ تقدّم حلولاً ناجعة للأزمة الاقتصادية في المحافظات
صحيحٌ أنّ الخطاب الاقتصادي للحكومة الأردنية شهد تحولاً مهماً في الأعوام الأخيرة، منذ حكومة هاني الملقي (2016 - 2018) التي رفعت شعار الاعتماد على الذات، ثم حكومة عمر الرزاز (2018 - 2020) الذي جاء بخطاب "العقد الاجتماعي الجديد" (ويشير إلى الانتقال من العلاقة الريعية الزبائنية نحو علاقة جديدة بين الدولة والمواطنين)؛ لكن هذا الخطاب جاء متأخراً غير مبرمج بصورةٍ عمليةٍ تقدّم حلولاً ناجعة للأزمة الاقتصادية في المحافظات، ومناقضاً للسياسات الرسمية التي كانت تتنكّر لأهمية مراجعة المعادلة السياسية، وتصرّ على التمسّك بمرحلة انتهت وأصبحت لا تفرز إلا الأزمات.
من المؤشّرات الواضحة، على ما سبق، في أزمة النائب العجارمة أنّه لم يمض 24 ساعة على بيان أصدره شيوخ في العشيرة يؤكدون فيه على الولاء والانتماء (اللغة التقليدية)، ويرفضون ما قام به النائب المفصول، حتى صدر بيان آخر عن "شباب العشيرة" يؤيدون النائب ويرفضون بيان الشيوخ! ما يؤكد على "صراع الأجيال" في الأوساط العشائرية، وعلى أن مياهاً كثيرة جرت تحت الأقدام، خلال العقد الأخير تحديداً.