الفقدان الغامض والواضح
ترى عالمة النفس الأميركية، باولينا بوس، أنّ هناك عدة أنواع من الحزن ينتج من "الفقدان الغامض"، منها الحزن المتقدّم أو الاستباقي، وهو الحزن الذي يسبق عملية فقدان مريض محكوم بالموت مثلاً، أو ما يمكن اختصاره بالقول إنّ المفقود فيه حاضر مادياً وفيزيولوجياً، لكنّه غائب روحياً، مثل الشخص المصاب بالزهايمر، أو الذي يعاني موتاً سريرياً أو مدمن المخدّرات الذي لا أمل في شفائه، أو ما شابه من الحالات. النوع الآخر من الحزن الذي يجري الحديث عنه هو ما يمكن اعتباره حزناً معلقاً، وهو الذي يكون فيه الشخص غائباً، لكنّ حضوره طاغٍ من الناحية النفسية. وهذا ينطبق أكثر شيء على المفقودين الذين يعتبر مصيرهم غير واضح، إن كانوا في عداد الموتى أو ما زالوا على قيد الحياة، مثل الذين لم يعودوا من الحرب، ولا وجود لنبأ عنهم أو شاهد أو دليل على موتهم. وفي سجوننا التي يصفها المثل الشعبي أنّ "الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود" ينطبق الحديث على عشرات آلاف من المفقودين الذين لا يُعرف مصيرهم، فهل جرت تصفيتهم في الأقبية، أم ما زالوا على قيد الحياة هناك؟ حيث تتصارع في نفوس ذويهم فكرتان متناقضتان:
الأولى مهما كانت خيوطها واهية، فإن المفقود قد يكون لا يزال على قيد الحياة، وكما يقولون، فإن غياب الخبر بحد ذاته خبر. والأخرى المرعبة أن مفقودهم قد جرت تصفيته أو مات تحت التعذيب، ولكنهم سيبقون معلقين بخيط الأمل الواهي، طالما أنه ليس من دليل يثبت الفرضية الأخرى الأقوى، أن مفقودهم قد مات. وسيبقى شعور من الحزن المبطّن يتصارع مع نقيضه الفرح المبطن، حتى يُنهك المنتظرون الحقيقة نفسياً وروحياً، فيبقى الأمل مغمّساً بالحزن، والحزن موشّحاً بالأمل، حتى ورود الدليل على ثبوت الموت أو على الحياة. وترافق مشاعر كثيرة، مختلطة متناقضة، الفقدان الغامض، ولكلها تقريباً حلول مقترحة للتخلص منها، أو على الأقل للتخفيف من أثرها، ولكن نوعاً من الفقدان، إن صحّت تسميته كذلك، لم يدرُس أحد آثاره كنوع من الفقدان، ألا وهو الفقدان الواضح حيث يكون الفقدان مؤكداً وموثقاً بشهادات الوفاة وبوجود الجثة وأحياناً بمواد سمعية وبصرية. الفرق بين الفقدان الغامض والفقدان الواضح، أنّ الشخص في الفقدان الغامض لا يستطيع التخلص من آثار هذا الفقدان، بسبب عدم وجود الدليل عليه. أما في الفقدان الواضح، فلا يتمكّن الشخص من التخلص من آثار الفقدان، على الرغم من وجود الدليل القاطع عليه. والفرق بين الفقدان الغامض والفقدان الواضح أن المفقود في الأول محبّب إلى من يشعر بفقدانه، أما المفقود الآخر في الفقدان الواضح، فيكون مكروهاً من مفتقديه، وغالباً ما يكون مستبداً أو طاغية، ترك لمن لن يتمكّن من التأقلم مع فكرة فقدانه ذاكرة زاخرة بالرعب. ولهذا، إن كان الحزن هو الشعور الأقوى مع الفقدان الغامض، فإنّ الخوف هو الشعور الأقوى مع الفقدان الواضح، إذ يغيب المفقود جسداً، ولكنه يبقى حاضراً في النفوس والعقول، خصوصاً في منطقة اللاوعي التي تدير كوابيس الإنسان.
وتتخذ آثار الفقدان الواضح أشكال الفوبيات المختلفة التي كانت سائدة في حياة الفقيد، ومنها مثلاً فوبيا الحدود، حين يسيطر على الشخص التوتر عند نقطة الحدود، وتبدأ مشاعر القلق عند تجاوزها إلى الداخل، بينما يتنفس الصعداء عند مغادرتها إلى الخارج. وبعض هذه الفوبيات قد تسافر مع أصحابها إلى الخارج، فيتحدث الشخص مثلاً بهمس، عندما يتطرّق إلى موضوع ما، أو يتلفت في ما حوله، للتأكد من أنّ أحداً لا يسمعه أو يقفز إلى النافذة كلما سمع صوت انطباق باب سيارة في الخارج، ظناً منه أنّهم جاؤوا لأخذه. وغير ذلك كثير من أشكال الفوبيات التي تحتاج لفريق، وربما لمعهد كامل، من أجل رصدها وتحليلها. وإذا كانت آثار الفقدان الغامض قد تنتهي مع اتضاح الصورة فيضمحل الحزن رويداً رويداً، فإنّ آثار الفقدان الواضح قد تكون عصية على الشفاء من دون تدخل الطب النفسي مباشرة.