الفقر والإحسان في مصر
"كان نقص الغذاء بمثابة تهديد دائم لحياة الفقراء بالقاهرة زمن المماليك، وتغطّي المؤرخات بالروايات عن حالات الخوف والذعر، بل والشغب، التي كانت تنشب عندما ترتفع أسعار الحبوب، والخبز بالتالي، إلى درجة تُنذر بالخطر، وكثيراً ما كانت هذه الأسعار العالية تنتج من الكوارث الطبيعية، بيد أنّها كانت تحدث أحياناً على الأقل بسبب الفوضى البشرية. ونادراً ما كانت أسعار المواد الغذائية الرئيسية ترتفع، وتبقى مرتفعة مدة طويلة، بحيث يموت الناس جوعاً. وكما سنرى، كان الخوف من المجاعة أكبر من حدوثها في القاهرة في عصر سلاطين المماليك. ولقد كان الجوع رفيقاً دائماً بالفقراء، بيد أنّه نادراً ما كان يهزمهم تماماً"... من كتاب "الفقر والإحسان في مصر في زمن سلاطين المماليك 1250 - 1517" تأليف أدم صبرة، ترجمة قاسم عبده قاسم (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003).
هل كان لا بدّ من هذه المقدّمة، كي ندخل في الموضوع، بلا تهليل لقدرة الفقراء على التحمّل أيضاً، وكأنّنا نرقص على "تسلم الأيادي مثلاً"، أو "تحيا مصر". وبلا تسامح مع من يستغلّ حتى الجوع من النخبة بكلّ تنوعاتها في مصر، على حساب موت الفقراء مادّياً ومعنوياً وإعلامياً، وعلّ الموت المعنوي هو الأكثر صحبة للفقراء في مصر من آلاف السنين، رغم كلّ هذا الغناء والأهرامات المصوّبة رؤوسها للشمس والسماء، ابتداء من برديات الكاهن المصري القديم حتى "محلاها عيشة الفلاح" للواء الموسيقار المطرب محمد عبد الوهاب.
نرصد في الكتاب عدة نقاط هامة، وكأنّ كلّ واحدة منها تمشي معنا من مئات السنين، منذ أيام مماليك السلاطين، وإلى سنوات قادمة، وإلى قرون أيضاً، لولا فسحة الأمل الشحيح: أولاً، في حين كان السوق في الوقت نفسه خاضعاً لاقتصاد الجباية الذي كان السلطان والنخبة العسكرية يمثلان رئاسته، لم تكتفِ النخبة العسكرية بالاتجار في القمح والحبوب، لكنّها استخدمت صوامعها لإمداد تابعيها. ثانياً، إذا كان الفقراء أول من يشعرون بأيّ تغيّر في أسعار الحبوب في السوق، فإنّهم لم يكونوا قادرين على الاعتماد على المنح المنتظمة التي كانت النخبة قد اعتادت عليها. ثالثاً، وعندما لم يكن السلطان يتدخل، مثل ما حدث في أزمة 1400 – 1404م، كان الفقراء يقضون نحبهم جوعاً. رابعاً، بينما كانت سيطرة النخبة على فائض الحبوب عاملاً مهماً في صنع الأزمات، يبدو، في معظم الحالات، أنّ العوامل البيئية كانت السبب الرئيسي، وكون مصر "هبة النيل"، أمر معلوم للجميع. ومع هذا، من الصعب المبالغة في التأكيد على أهمية فيضان النيل السنوي بالنسبة لسكان البلاد، فمع بداية الخريف، كان يمكن للمصريين تقدير حجم محصول الربيع المقبل على أساس وصول ارتفاع النيل إلى 16 ذراعاً من عدمه. وعلى ضوء المعلومات، كان من يملكون الحبوب أو يتاجرون فيها يبدؤون في حساب الأرباح التي يمكن جنيها من بيع الحبوب أو حجزها. وبشكل نمطي، كانت الأسعار ترتفع في الشتاء، عندما تتناقص كميات المخزون من الحبوب.
وفي نهاية نقاط الكتاب المنقولة حرفياً من ذلك الكتاب المهم، نقول: اللهم اكفنا النخبة والسلطان وتجّار الحبوب الذين يطلق عليهم الآن "رجال أعمال" بعدما تحوّلت "شواني الغلال" في كلّ أقطار المحروسة إلى أبراج سكنية بلا دقيق أو غلال. أما لو عدنا إلى الدروس المستفادة منذ أيام سلاطين المماليك، وأقصد هنا الفائدة الشعبية من ناحية الوعي، فتكاد تكون المحصلة في حجم صفر، باستثناء دخول أصحاب المخابز بأفرانهم ما بين دقيق الدولة (أو حبوبها) والشعب، وقد زاد هذا على "المرار" مرّين، فهل كان النظام المصري واعياً بمدى "قدرة اللصوص الصغيرة في الأفران" على سرقة القوت من خلف العسكر. ولذا بادر وهو "المحنّك"، إلى حجز الحبوب في صوامعه العسكرية القديمة جداً قدم السلاطين، حتى قبل أيام سلطة المماليك، وقامت السلطة على الفور، في أيامنا تلك، بتحرير ما يوازي ثلاثة مليارات جنيه، غرامات مخالفات على أصحاب المخابز والدفع بالأمر العاجل، وقام أصحاب المخابز بالتسديد.
لعبة قديمة، تعرفها السلطة جيداً من أيام سلاطين المماليك وقبلها، تعطيك "وهي اللصّة الأم"، كي تخبز. ولكن في أيام المجاعات، لا قدّر الله، فأنت أول من يدفع الغرامة، وتصمت صمت الحملان، بشرط أن تأخذ أكياس الدقيق مكتوباً عليها "تحيا مصر"، مثل كرتونة الجيش تماماً، إلى أن تمرّ الغمّة على الجميع بسلام.