الفكر العربي في عصر النهضة: ألبرت حوراني بين ثقافتين
لا يُعرف بالتحديد متى بدأ هذا الفكر الذي يُؤرّخ له بعصر النهضة العربية، ففكرة النهوض لا يمكن ربطها بما يسمّى العصر الحديث، فهي تظل، بشكل أو بآخر، تدور في خلد المفكرين الذين ينتمون إلى تلك الحضارة والجغرافيا التي ارتبطت بها، وسنجد، بشكل دائم، أن مفكرين كثيرين في تراثنا تعلّقوا بتعبيراتٍ هنا أو هناك، ربما لا تستخدم فكرة النهوض، ولكنها على أقل تقدير تجيب على ذلك السؤال المهم الذي يتعلق بحال العرب والمسلمين في أزمتهم، وبحال الأمم الأخرى التي ربما تكون قد قطعت شوطا في التفكير في مسألة النهوض.
ويبدو لنا أن الخرائط الذهنية والمعرفية التي أشرنا إليها ضمن تصورات النهوض والإصلاح ومشاريع التجديد ضمن مستوياتها المختلفة، إنما ظلت تعبر عن نفسها في حلقات التجديد في سياقٍ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم "يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها"، وأيا كانت الكلمات التي تعبّر عن هذا الشأن من إحياء أو بعث أو رقي أو غير ذلك من كلماتٍ تصف هذه الأحوال الفكرية، وطرح ذلك السؤال الجوهري عن النهوض وعوامله والتخلف وظواهره والخروج من حال التخلف، فنرى، على سبيل المثال، جهودا قد بذلت في هذا الإطار، منها كتب تتعلق بإغاثة الأمة، مثل كتاب الإمام الجويني "غياث الأمم في التياث الظُلم"، وكتاب المقريزي حينما عالج تاريخ المجاعات في مصر، والخروج من الأزمات التي أصابتها في كتيب صغير بعنوان "إغاثة الأمة بكشف الغمّة"، وقد عبّرت مثل هذه الكتابات بشكل مباشر عن عالم الأزمة والتحدّي، وعالم الاستجابة والمواجهة.
عرف الفكر العربي فكرة النهضة، وطُرحت أسئلة كثيرة تعبّر عن خرائط متنوعة يمكن أن نتعرّض لها ضمن تلك المداخل التي تتعلق بفكرة الإصلاح، ونستطيع أن نعبر من خلال تراكم هذه التساؤلات وتقديم مجموعة فكرية من الاستجابات أن ولّدت عددا من المشاريع عرفتها المنطقة، خصوصا في القرون التي شكلت "العصر الحديث". وأيا كان الأمر في اعتبار ذلك، هناك أمورٌ تحدّد أحداثا محورية فيما يتعلق بسؤال النهضة والإصلاح الذي صادف، من بعد ذلك، إذ حمّله بعضهم ضمن أسئلة متتابعة مثل؛ ما هي النهضة؟ ولماذا تخلف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ ومن الواضح في هذا المقام أن الاحتكاك الأخير بالحضارة الغربية قد ولّد هذا التساؤل ضمن بيئةٍ تشير إلى تراجع العرب في سلم النهوض، وإلى بروز الحضارة الغربية في عصر نهضتها؛ تلك العصور التي شكّلت عصر الأنوار، تمهيدا لحضور الغرب وغلبته في عالم الحضارات والثقافات الذي ارتبط بتطوّرات في سائر المعمورة.
الاحتكاك بالحضارة الغربية ولّد تساؤلات ضمن بيئةٍ تشير إلى تراجع العرب في سلم النهوض، وإلى بروز الحضارة الغربية في عصر نهضتها
استعراض بعض الكتابات التي شكلت مدخلا مهما في رصد تلك الخرائط المعرفية والفكرية والثقافية التي ترتبط بالمنطقة، وتعالج مسألة النهوض والإصلاح في سياق التراكم الذي حققته تلك الكتابات، ربما يكون مدخلا مهما في استعراض تلك المحاولات التي تتعلق برصد تلك الخرائط. ونفتتح ذلك بكتاب مهم يعد من الكتب العمدة في هذا المجال، حيث قدم عالم الأفكار المتعلق بالنهوض والإصلاح؛ وهو للمفكر ألبرت حوراني، وعنوانه "الفكر العربي في العصر الليبرالي" في 1962، (صدر في طبعته العربية بعنوان "الفكر العربي في عصر النهضة 1789 - 1939"، دار نوفل، بيروت، 2019).
ألبرت حوراني (1915 -1993) مؤرّخ لبناني ــ بريطاني متخصص في تاريخ الشرق الأوسط ودراساته، ولديه مسيرة مهنية وأكاديمية بارزة، حيث تولى التدريس في جامعاتٍ عديدة، وله كتب ومؤلفات عديدة، نالت درجة كبيرة من الانتشار والترجمة إلى أكثر من لغة، وطباعتها عدة طبعات، وطبقت شهرته الآفاق غربيا وعربيا. يوضح أن الكتاب بالأساس في أصله محاضرات ألقاها في الجامعة الأميركية في بيروت (1956 – 1959)، ويؤكّد أنه ليس تاريخا عاما للفكر العربي الحديث، إنما هو دراسة لتيار من الفكر السياسي والاجتماعي الثقافي العربي في القرن التاسع عشر الذي تنبّه إلى أفكار أوروبا الحديثة، وشعر بقوتها، وطرح أسئلة عن موقف أصحابه منها. وقد وقف حوراني أمام هذه الأسئلة، وما قدّم لها من إجابات، وهو في ذلك عمد إلى وضع إطار فكري أسّس من خلاله لرؤاه حول هذا الفكر تمثل في استعراضه مفهوم الدولة الإسلامية، وإشارته إلى الإمبراطورية العثمانية، متلمسا الإمساك بانطباعات اللقاء الأول بين العالم الإسلامي وأوروبا الحديثة.
حرص حوراني على تناول نماذج كاشفة وشارحة لفكرته العامة عن جهود النهوض في الفكر العربي، فرصد رواد الجيل الأول
حرص حوراني على تناول نماذج كاشفة وشارحة لفكرته العامة عن جهود النهوض في الفكر العربي، فرصد رواد الجيل الأول، مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني. ولم يكن ليستطيع أن يتجاهل جمال الدين الأفغاني ورفيق رحلته ومشروعه الإصلاحي محمد عبده، وانتبه إلى الأفكار التي أنتجها هذا الجيل، وخصوصا فكرة الإسلام والمدنية الحديثة. وكان حاضرا لرصد اتجاه القومية المصرية، وما ولده بروز هذا الاتجاه من تياراتٍ وأفكارٍ تتبنّى الاتجاه الإسلامي، وأخرى تتبنّى العلمانية، وكذا القومية العربية. وأفرد فصلا عن طه حسين، باعتباره لا يشكل جزءا من مدرسة بعينها، معبّرا عن أفكار كثيرة في سياق رحلته وترحاله الفكري، فكان عليه أن يشير إليه تلك الإشارة الخاصة باعتباره نموذجا حيا للتفاعل بين ثقافتين؛ إسلامية عربية، وغربية احتضنته منذ ابتعاثه إلى فرنسا، بل إن حوراني نفسه يمثل ذلك النموذج الحي في الجمع بين أصوله اللبنانية وتوطّنه في بريطانيا متعلما وعالما.
ومع اعتراف بالإسهام الكبير الذي قدّمه ألبرت حوراني، واجتهاده في رصد هذه الخرائط الفكرية من جرّاء تفاعل ثقافتين في ذلك الزمن، إضافة إلى أنه، في كثير من فصول بحثه، التزم منهجا علميا رصينا، إلا أنه، في واقع الأمر، يقع عليه نقد أساسي قد ينال من موضوعيته الكاملة، وفقا لما رصده الكاتب سمير أبو حمدان، في مراجعته الضافية، إذ ذكر أن حوراني نسب الفكر العربي المتنور إلى التأثير الأوروبي بشكل كامل، ما يعود إلى فرضيته الأساسية الكامنة والظاهرة أن الأفكار الأوروبية، بحسب ما رصده حمدان، هي التي خضّت وحرّكت الحياة الفكرية العربية التي كانت مسْتَنقِعَة، ولولا هذه الأفكار لبقى الإسلام (فقها، وحديثا، وشرعا) يرزح في حالةٍ من الجمود اللامتناهي؛ على حد تعبيره.
ومن الملاحظ في ارتباط هذا الكتاب المهم في رصده خرائط مشروعات النهضة أنه يمثل رصدا لتلك اللحظة المهمة في التقاء الحضارة الغربية بالحضارة العربية الإسلامية في القرن التاسع عشر الذي شهد احتكاكا حضاريا وثقافيا متميّزا، أدّى إلى طرح جملة من خرائط الأسئلة المختلفة، دفعه، في النهاية، إلى تتبع خرائط الاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية، رصد من خلالها مدارس فكرية؛ بل وخريطة أشخاص أسهمت إسهاما كبيرا في عالم الأفكار آنذاك، وبلورت، إلى حد كبير، توجهاتٍ فكرية. وأبرز في ذلك منظومة أفكار مهمة ذات تأثير مباشر وغير مباشر على أطروحاتٍ تتعلق بالنهضة والإصلاح، من جرّاء ذلك الاحتكاك الحضاري بين الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية.