الفلسطينيون والصين والمعضلة الأخلاقية
حطَّ الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس رحاله، الأسبوع الماضي، في العاصمة الصينية، بكين، في زيارة دامت أربعة أيام، التقى خلالها الرئيس الصيني شي جين بينغ. يتمثل أحد أبعاد الزيارة في السعي الفلسطيني الحثيث إلى إيجاد معادل موضوعي للدور الأميركي المنحاز بفجاجة لصالح إسرائيل في ما توصف بعملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية، والتي لم تنتج سلاماً ولا تسوية بعد أكثر من ثلاثة عقود على انطلاقتها. لكن، إذا كان من المفهوم أن الجانب الفلسطيني الرسمي يريد كسر الاحتكار الأميركي ملفّ التسوية، فإن من غير المقبول أن يكون ذلك مقابل الرضى والقبول، بل وحتى دعم الاضطهاد الصيني أقلية الإيغور المسلمين في إقليم شينجيانغ. وتصف المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان سياسات الإبادة الثقافية التي تتبعها السلطات الصينية بحق الإيغور المسلمين بأنها "قد تشكّل جرائم دولية، ولا سيما جرائم ضد الإنسانية".
إقليم شينجيانغ، أو ما كان يعرف قديماً باسم تركستان الشرقية، موطنٌ لملايين من الأقلية العرقية من الإيغور الذين يتعرّضون منذ سنوات طويلة لاضطهادٍ منهجيّ في معتقلاتٍ جماعية، أو ما تطلق عليه السلطات الصينية اسم "معسكرات إعادة التعليم". تهدف هذه المعسكرات إلى طمس الهوية العرقية والدينية والثقافية لمسلمي الإيغور، وإرغامهم على تبنّي الهوية "الوطنية الصينية"، والتي ترتبط بأغلبية شعب الهان الصيني. وحسب خبراء، فإن هذه المعسكرات، أو بتعبير أدق المعتقلات الجماعية، هي "أكبر اعتقال جماعي لأقلية عرقية دينية منذ الحرب العالمية الثانية"، وذلك عندما جرى احتجاز اليهود وتعذيبهم وقتلهم في معسكرات الاعتقال النازية. تُرى كم يفرق هذا عمَّا تمارسه إسرائيل اليوم بحق الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها؟
أيٌّ مما سبق لم يعن لعباس ومستشاريه شيئاً، هذا إذا فكّروا فيه أصلاً وتدبّروا في تمثلاته وتداعياته فلسطينياً. نعرف ذلك من البيان الختامي الصيني – الفلسطيني المشترك، الصادر بعد لقاء جين بينغ – عباس (14/6 /2023)، وأعلن صراحة دعم السياسات الصينية الشائنة بحق الإيغور. وحسب البيان، فإن "القضايا المتعلقة بشينجيانغ ليست قضايا حقوق إنسان على الإطلاق، ولكنها متّصلة بمحاربة الإرهاب العنيف، ومكافحة التطرّف، ومناهضة النزعات الانفصالية". ليس هذا فحسب، إذ نصّ البيان على أن "فلسطين تعارض بشدة التدخل في الشؤون الداخلية للصين بحجّة القضايا المتعلقة بشينجيانغ". نعلم، طبعاً، أن هذه اللغة موجهة نحو الولايات المتحدة التي تمارس النفاق في أبشع صوره حيث تدين الصين على جرائمها بحق مسلميها، وتغضّ الطرف عن الممارسات الفظيعة التي تمارسها الهند ضد مسلميها. إنه صراع جيوسياسي لا شأن للقيم والأخلاق فيه.
ينبغي أن يقف الفلسطينيون مع الإيغور وغيرهم من الشعوب المضطهدة
بعيداً عن ضرورات السياسة وإكراهاتها، هذا إذا كانت كذلك هنا، فإننا، نحن النخب الفلسطينية، مطالبون بأن نرفض أن تكون قضية فلسطين النبيلة والعادلة غطاءً لجرائم الصين ضد شعب الإيغور. لا يتعلق هذا الموقف الأخلاقي والمبدئي بالإيغور وحدهم، بل سبق أن قلناه عندما تعلق الأمر بشعوبٍ أخرى تعاني عسف إيران والنظام السوري، بل وحتى أي نظام عربي آخر يفتك بشعبه، ويحاولون استخدام فلسطين ورقة تين يسترون بها سوءاتهم. ليس من المقبول أبداً ممن يزعمون أنهم يمثلون شعباً مظلوماً أن يؤيدوا اضطهاد شعوبٍ أخرى باسم فلسطين. تُرى، كم مرّة عبرنا عن اشمئزازنا من الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي يقدّم نفسه مدافعاً عن شعبه الذي يواجه غزواً روسياً، في حين يؤيد جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني؟ كيف يفرق هؤلاء من القادة الفلسطينيين عنه؟ إذا كان ما يزعمونه من إكراهات السياسة و"المصالح العليا" يمنعهم من الصدح بالحقيقة، فإنه لا يوجد ما يمنعنا نخباً وأفراداً فلسطينيين عاديين من أن نُصَوِّبَ الخطاب ونضبط البوصلة قبل أن نخسر تعاطف الشعوب المضطهدة الأخرى معنا، وقبل أن نخسر كذلك عمقنا العربي والإسلامي.
مثلما يقبع الشعب الفلسطيني ضحية نظام فصل عنصري إسرائيلي وحشي، فإن شعب الإيغور هم أيضاً ضحايا حملة طمس وإلغاء ممنهجة تمارسها بحقّهم الحكومة الصينية. من ثمَّ، ينبغي أن يقف الفلسطينيون مع الإيغور وغيرهم من الشعوب المضطهدة. عجز الساسة عن البوح بذلك، فلا يوجد ما يمنعنا نحن من إعلانها بملء الفم. وإذا أعطينا لأنفسنا الحقّ أن نُمَرْكِزَ فلسطين ونضعها فوق جراحات الآخرين، فلا نلومنَّ غيرنا عندما يفعلون الأمر نفسه، ويجعلون من فلسطين ورقة مساومةٍ بذريعة مصالح شعوبهم العليا. العدل قيمة لا تقبل التجزئة، والمواقف الأخلاقية المبدئية غير قابلة للتفاوض. بالمناسبة، لا تقلّ الصين إمبريالية وعدوانية عن الولايات المتحدة، وشرق آسيا شاهدٌ على ذلك.