القانون الدولي على المحكّ
أثارت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، أسئلة عديدة بشأن مستقبل القانون الدولي، وبشكل خاص قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربع التي صاغتها المنظمّات الدولية المختلفة عام 1949، لتطبيقها في حالات الحرب والنزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، بما تشمله من ضرورة التفرقة بين العسكريين والمدنيين، والأعيان المدنية والعسكرية والتناسب بين الفعل وردّ الفعل، وتجريم جرائم الحرب والابادة الجماعية.
بالإضافة إلى تراث ضخم من قواعد القانون الدولي تؤكد حقّ الشعوب في تقرير المصير ومقاومة الاحتلال، وعدم الاعتراف بسيطرة الدول على أراضي الغير بالقوة، وغيرها من المبادئ الرئيسية التي توافقت عليها بلدان العالم المتحضر، وإنشاء هيئاتٍ دوليةٍ لتبادل الأسرى والوساطة بين المتحاربين من بينها الصليب والهلال الأحمر، ومحاكم دولية لمحاسبة مجرمي الحرب. وجديدها أخيرا المحكمة الجنائية الدولية.
وللأسف، تجاهلت أغلب البلدان الغربية ما يحدُث من جرائم حرب يومية يقوم بها الاحتلال، منحازة إلى روايته الكاذبة، وتتبنّى الولايات المتحدة ودول أوروبية، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، معايير مزدوجة، بمساندة كاملة للعدوان الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزّة وقصف بنايات كاملة آهلة بالسكان بمبرّر حقّ إسرائيل "في الدفاع عن النفس"!!. وعدم إدانة الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد المنشآت الصحّية، ومنها مستشفى المعمداني الأهلي، وأطقم الإسعاف والدفاع المدني والصحافيين. ولم يحرّك هؤلاء ساكنا، ولو حتى بالمطالبة بوقف هذه الجرائم، المدبّرة بليل، ضد أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح. ولم تكتف بذلك، بل تجاوز الأمر إلى قمع احتجاجات مواطنيها ضد تلك الجرائم في محاولةٍ لتكميم الأفواه في تماثل جزئي مع ديكتاتوريات العالم الثالث.
لا يتوانى الاحتلال عن قصف يومي لكل المنشآت المدنية، ومنها البنايات المليئة بالسكان والمستشفيات والأسواق وأماكن العبادة والمدارس
ويتناسى هؤلاء الأسباب التي أدّت إلى هذا الوضع، بوجود الاحتلال الذي يغتصب أراضي الغير، ومشروعية الحقّ في مقاومة الاحتلال في قطاع غزّة والضفة الغربية، وهو ما تمارسه حركتا حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، وهو يشبه بما تقوم به القوات الأوكرانية في مواجهة العدوان الروسي على أراضيها. ويتغاضى هؤلاء عن تنفيذ كل القرارات الدولية بعدم مشروعية الاستيطان وبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. وفي الوقت نفسه، يتناسى الغرب أن عملية طوفان الأقصى جاءت بسبب تفاقم الأوضاع في الأراضي الفلسطينية وتصاعد هجمات الاحتلال ومستوطنيه، وقبل ذلك تجميد الوضع السياسي على نحو يُكسب "إسرائيل" مزيدا من الوقت لانتزاع الأراضي المتبقية واستمرارها في تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، وإحلالهم بمستوطنين، وهو ما يعد جريمة حربٍ أخرى.
وجاءت عمليات "حماس"، أخيرا، بسبب غياب أي أفقٍ سياسي ينهي الاحتلال، بعد تجميد المفاوضات مع منظمة التحرير منذ سنوات، وتجاهل تنفيذ القرارات الدولية التي تتعلّق بإنشاء دولة فلسطينية على أراضي ما قبل يونيو/ حزيران 1967، وفي الوقت نفسه، يشجعون الاحتلال على ارتكاب جرائمه بتجميد صدور أي قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار وتمرير المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع، الذين يصل عددهم إلى ما يزيد على مليوني شخص، يتعرّضون إلى الحصار والعقاب الجماعي الإسرائيلي. ويظهر هذا المنطق المراوغ بمقارنة الحالة الفلسطينية بما يحدث في الصراع الروسي الأوكراني، وكيف تعاملت الولايات المتحدة وأوروبا بفتح الأبواب أمام آلاف اللاجئين ومساندة أوكرانيا بكل الوسائل بالسلاح والمساعدات المالية والإنسانية والدعم السياسي واللوجستي، وإصدار عقوبات اقتصادية ضد روسيا، بالرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى محو السكان الأصليين من الوجود، حيث يمارس إجرامه منذ عام 1948 ليس في فلسطين فحسب، بل في البلدان العربية المجاورة في حروب ممتدّة منذ 75 عاماً.
جاءت عمليات "حماس"، أخيرا، بسبب غياب أي أفقٍ سياسي ينهي الاحتلال، وتجاهل تنفيذ القرارات الدولية التي تتعلّق بإنشاء دولة فلسطينية
إلى جانب ذلك، لا يتوانى الاحتلال عن قصف يومي لكل المنشآت المدنية، ومنها البنايات المليئة بالسكان والمستشفيات والأسواق وأماكن العبادة والمدارس، وارتكاب عشرات المذابح ضد أهالينا في فلسطين، وسط حصار وعقاب جماعي متعمّد وارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أمام عيون العالم من دون اكتراث قادة الغرب لهذه الجرائم. بل وتشجيع "إسرائيل" على الاستمرار في جرائمها ومساعدتها بالإفلات من العقاب، أو حتى اللوم من المؤسّسات الدولية ذات الصلة، وحمايتها بكل أشكال الحماية الممكنة من خلال إظهار الفيتو الأميركي، والاستمرار في تقديم الدعم السياسي، وهذا ما تؤكّده زيارات المسؤولين الغربيين لتل أبيب، وإعطائها حقّ الدفاع عن النفس، من دون أن تعطي الطرف الآخر الحق نفسه الذي كفله له القانون الدولي والشرائع الإنسانية وميثاق الأمم المتحدة. ويمثل هذا الأمر انتهاكا فاضحا لأحكام القانون الدولي، وإضعافه واستهانة بقواعده، ويؤدّي إلى استمرار الاحتلال الصهيوني في جرائمه، ليمارس سياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، معتمدا على الحماية التي توفّرها له الدول الغربية الكبرى.
تضع هذه الممارسات القانون الدولي ذاته على المحكّ، وبشكل خاص تلك القواعد التي تجرّم استهداف المدنيين والعقاب الجماعي ومنع المساعدات الإنسانية، ونقل السكان من مكان إلى آخر. وتوصَف هذه الأفعال بوضوح بأنها جرائم حرب تستحقّ المحاسبة والعقاب، لا التشجيع، وهو ما قد يعصف بالأمم المتحدة نفسها كما حدث مع عصبة الأمم، التي انهارت بعد فشلها في ممارسة دورها بإحلال السلام والأمن الدوليين بعد نشوب الحربين العالمين الأولى والثانية. وترسّخ هذه الأفعال مستقبلا سياسات الاستقطاب الدولي، بل وقد تجبر دولا كثيرة من العالم الثالث على الانضمام إلى القوى الدولية المناوئة للغرب، مثل الصين وروسيا وإيران، على غرار تكتل دول "بريكس" وغيره. ويؤدّي ذلك إلى إضعاف مصداقية المقولات الغربية عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني التي أكّدت على حماية المدنيين، واستهدفت بعض الفئات بحماية إضافية، منها أسرى الحرب والصحافيين. وبالتالي، يتسبّب في حالة من عدم الاكتراث بمنظومة حقوق الإنسان ككل في العالم العربي وبلدان العالم الثالث. ويؤكّد هذا النفاق، مع ما يحدُث من جرائم في قطاع غزّة ضد الأطفال والنساء والذي يحدث بشكل متعمّد وانتقام واضح، تبنّي دول الغرب معايير مزدوجة، باعتبار إسرائيل الإبن المدلّل أو القاعدة الغربية في المنطقة، لتحقيق المصالح الغربية فيها وإعطائها حصانة تحميها من المحاسبة، ما دامت كانت تلبّي مصالح الغرب. كما أنّ هذا التوجّه يكرس مناخ الكراهية واليأس لدى قطاعات شعبية عديدة في العالم العربي ضد سياسات الغرب المزدوجة، وقد يؤدّي إلى ردود أفعال عنيفة وخارجة عن السيطرة، بسبب الغضب والإحساس بالظلم.