القذافي ومسار الانتكاسة
لم يكن ينقص مشهد الثورات المضادة في العالم العربي إلا ترشح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية الليبية، لتكتمل بذلك صورة الانقلابات الكبيرة على الثورات التي اندلعت في عدد من الدول العربية بداية من 2011. فحتى لو لم يصل القذافي الابن إلى سدة الرئاسة، أو لم يقبل ترشحه، يكفي ظهوره على الساحة السياسية مجدّداً وتقديمه أوراق ترشّحه، ليشير إلى الانتكاسة التي وصل إليها مسار ما عُرف بـ "الربيع العربي".
وعدم قبول الترشح، في حال حصوله، لن يكون مرتبطاً بالتمسّك بـ"منجزات" الثورة الليبية، بل بالمعارضة الدولية التي ظهرت مبكراً لعودة عائلة القذافي إلى المشهد السياسي. فرغم تبنّي القاهرة ونظام عبد الفتاح السيسي سيف الإسلام، إلا أن معارضة أميركية شديدة قد تحيد هذا التبني نحو شخصيات أخرى. الرفض الأميركي هنا مرتبط فقط بشخص الرجل وليس بما يمثّله. فلدى سؤاله عن موقف واشنطن من ترشح القذافي الابن للرئاسة، قال نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، جوي هود، "إن الشعب الليبي وحده من يقرّر من سيمثله في الانتخابات المقبلة". لكنه أضاف "أعتقد أن العالم كله لديه مشكلة مع ذلك فهو يعدّ أحد مجرمي الحرب ويخضع لعقوبات الأمم المتحدة ولعقوبات أميركية".
ليس للولايات المتحدة مشكلة في ما تمثله عودة القذافي إلى الحكم، وهي التي رعت، أو تغاضت عمداً، عن مسار الانقلاب على الثورات العربية، منذ عهد باراك أوباما، وفكرة الانزواء الأميركي إلى الداخل. مسار بدأ من مصر في عام 2013 مع الانقلاب العسكري الذي أطاح حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وما تلا ذلك من عودة إلى الحكم العسكري في البلاد تحت غطاء مدني، وبدعم من تيارات مدنية في البداية، رأت في حكم الإخوان المسلمين "استبداداً"، ثم ما لبثت أن تعايشت مع واقع الاستبداد الفعلي القائم اليوم، والذي عاد بالبلاد إلى ما قبل حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك.
كرة ثلج الثورات المضادة تدحرجت مع الوقت لتطاول غالبية الدول العربية التي شهدت احتجاجات شعبية أطاحت أنظمة. حتى تونس، والتي كانت تعدّ الأنموذج الأنجح للحراك الشعبي لجهة قدرتها على الحفاظ على التداول السلمي للسلطة والتمسك بالمسار الديمقراطي في حده الأدنى، لم تسلم من الانقلابات بشكل أو آخر، مع الإجراءات الأخيرة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، واستئثاره بكامل السلطات في البلاد وتجميده عمل البرلمان.
لم نكن ننتظر ترشيح القذافي الابن لإدراك الواقع الذي صارت إليه الثورات العربية، لكن ربما نكون بحاجة للتفكير فعلياً بالأسباب التي أدت للوصول إلى هذا الواقع. الأمر ليس مرتبطاً فقط برعاة الثورات المضادة ومموليها، وهم كثر، بل في التكوين الأساسي للأنظمة في هذه الدول العربية، والذي تسلل عبره داعمو الانقلابات. كذلك فإن اللوم يُلقى على الكيانات المنبثقة عن الثورات، والتي فشلت في التأسيس لحراك سياسي فعلي هدفه تطبيق الشعارات التي رفعت في غالبية الاحتجاجات، بل عمدت إلى محاولة جني مكاسب سريعة، ما لبثت أن تبخرت في مواجهة الثورات المضادة، وفتحت الباب أمام مسار الانتكاسة لما كان يمكن اعتباره "منجزات" للربيع العربي. فحتى الدول التي انضمت حديثاً إلى ما يمكن اعتبارها "الموجة الثانية" من الثورات، لم تتعلم من دروس الدول التي سبقتها، وكررت نفس الأخطاء التي وقعت فيها كل القوى التي شاركت في الحكم بعد الاحتجاجات. فها هو السودان في نسخة ما بعد عمر البشير يمضي على خطى مصر عبد الفتاح السيسي، مع انقلاب العسكر على الحكم المدني، ليدخل مسار الثورات العربية في مزيد من التدهور.