القوميون: صدمة وراء صدمة

15 ديسمبر 2024

(نجا المهداوي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

ما كُشف عنه في مراكز الاعتقال في سورية فاق الخيال وهزّ الوجدان وأذهل الأطفال الرضّع. ما الذي فعله هؤلاء المساجين حتى يتعرّضوا لمثل هذه الوحشية. لقد انهار حزب البعث منذ أصبحت الانقلابات وسيلته المفضلة لاغتصاب السلطة، وملاحقته المثقفين الأحرار، وحرمان معارضيه جميع حقوقهم، وتجريم الاختلاف في صفوفه، وترهيب القوميين الحقيقيين، والشروع في تأليه الحاكم بأمره.

كنتُ أناقش صديقاً من القوميين العرب في تونس. واستغربت دفاع حزبه المستميت عن بشّار الأسد ومساندته المطلقة سياسات "البعث" السوري، رغم كونه ناصرياً، فأجابني بأن الواجب كان يقتضي الوقوف إلى جانب سورية باعتبارها المعقل الأخير للتصدي للهجمة الصهيونية، وطرفاً أساسيّاً في جبهة الصمود والممانعة. أيّدته في هذه المسألة، رغم أن الأسد قبل عملياً باحتلال إسرائيل هضبة الجولان، وتجنّب الاشتباك معها. لكن المشكلة تبقى أعمق من ذلك. لا أفهم أن يكون المرء مدافعاً في بلاده عن الحرّيات وحقوق الإنسان، ويندّد بالانتهاكات التي تقوم بها السلطة، عندما تعتقل مواطناً من دون احترام الإجراءات القانونية، فيما يُسكَت عن مجازر نُفذت ضد معارضين في بلدٍ يحكم باسم القومية العربية، بحجّة أن الأولوية تقتضي تعزيز صموده في وجه إسرائيل، بل وتصديق اتهامه معارضيه بأنهم إرهابيون أو عملاء للإمبريالية.

هل يُعقل اليوم أن يستمرّ الدفاع عن الحقبة السابقة لنظام الأسد رغم الجرائم التي ارتكبها في حق السوريين؟ على القوميين وغيرهم في تونس وفي البلاد العربية التخلّص من الازدواجية المقيتة التي وجدوا أنفسهم يعانون منها، فالواجب السياسي والأخلاقي يفرض عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يصحّحوا مساراتهم في ضوء التحولات الجارية، وأن يتخلّصوا من الحرب الدائمة ضد الإسلاميين، وهي العقدة التي دفعت بعض القوميين واليساريين إلى تأييد تجريد هؤلاء الخصوم من حقهم في الحياة والحرية والكرامة، فالحقوق لا تتجزأ، ولا تقبل الاستثناء، فتمنح لبعض ويُحرم منها آخرون. على كل ديمقراطي متصالح مع نفسه تجنّب الوقوع في التناقض على صعيدي الخطاب والممارسة.

تغير المشهد بالكامل في سورية، ومع ذلك لم يغيّر بعضهم من مواقفهم السياسية والأيديولوجية، رغم أن الرجّة كانت قوية، وهذا ما يفسّر انكفاء الأحزاب والجماعات القومية وتردّدها في إصدار بياناتٍ تعكس تقييمها هذا الحدث الضخم الذي فاجأهما كما فاجأ الجميع. والسؤالان هنا: هل سيتحرّرون من ماضيهم؟ وهل سيدينون التجربة السورية كما سبق لبعضهم أن انتقد بوضوح التجربة الناصرية، فيتبرأوا من جوانبها المظلمة وخفاياها المقرفة؟

ليس الهدف من هذا القول إدانة التيار العروبي، الذي يبقى تياراً وطنياً أصيلاً ومتجذّراً في البيئة المحلية عربياً وتونسياً، بل الغرض مساعدة كثيرين من أبناء هذا التيار على ممارسة النقد الذاتي، والاستفادة من أخطاء الماضي، والتخلّص من الرهانات الخاطئة والتحالفات السياسية والأيديولوجية مع أنظمةٍ فقدت مصداقيتها منذ عشرات السنين. كذلك، إن هذا الحديث لا يرمي إلى إنهاء الصراع مع الإسلاميين، فذلك صراعٌ تاريخيٌّ له مبرّراته الفكرية والسياسية، وقد يشكل، في حد ذاته، واحداً من مظاهر الحيوية داخل النخبة العربية. وفي المقابل، يجب إبعاد هذا الصراع عن الأجواء المشحونة التي ترمي إلى الإقصاء المتبادل، فتكون النتيجة خسران الجميع، والأخطر تسميم الأجواء وتعميق الكراهية وتثبيت قواعد الاستبداد، والتورّط في حروب وهمية، فالحدث سوريٌّ بامتياز، لكن ما يجري في الفضاء الافتراضي يشبه، في حدّته ومصطلحاته وردود أفعاله، أجواء حرب أهلية طاحنة دون سلاح. وفي غياب العقلانية، يتوقف الوعي، وتنتفي الرغبة في الاستماع إلى الآخر المختلف.

تداركت السلطة التونسية الخطأ الذي ارتكبته قبل أيام قليلة من انهيار نظام الأسد عندما أصدرت وزارة الخارجية على عجل بياناً غريباً، ساندت فيه النظام السابق، ووصفت المعارضين له بالإرهابيين. وعندما حصل السقوط، عدّلت الموقف، واعترفت بالوضع الجديد. والمطلوب حالياً أن يراقب التونسيون ما حدث في سورية، ويتعاملوا معه بواقعية وحكمة، وأن يتهيأوا نفسياً وسياسياً للتعامل مع النظام الجديد ورموزه بحذر، ولكن بروح بنّاءة ورغبة جادّة لبناء الثقة من جديد.