الكونغرس الأميركي: إسرائيل أولاً
أي منطقٍ يمكنه أن يفسر نسق العلاقات الأميركية – الإسرائيلية وديناميكياتها؟ هذا سؤال مهم ومركزي، وينبغي أن نعود إليه في المستقبل القريب في محاولةٍ لتلمس بعض جوانب إجابته. كنت كتبت مقالاً في "العربي الجديد"، في 3 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعنوان "هل يمكن أن تخون إسرائيل أميركا؟"، أشار إلى بعض جوانب الخلل في العلاقات بين الطرفين، حيث تميل الكفّة لصالح إسرائيل التي هي من تعتمد وجودياً على الولايات المتحدة، لا العكس. مقال اليوم استكمال لمحاولة إبراز المفارقات الصارخة في نمط العلاقة المختلة بين من يفترض أنه المُوكِلُ (أميركا) والوكيل (إسرائيل).
في 21 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) ثارت أزمة سياسية عارمة في مجلس النواب الأميركي بشأن مشروع قانون لتمديد تمويل الحكومة الفيدرالية حتى الثالث من ديسمبر/ كانون الأول المقبل. كانت الحكومة تواجه إفلاساً وشيكاً في نهاية الشهر (كُتب هذا المقال قبل التصويت على مشروع قانون لتمديد تمويل الحكومة أمس الخميس)، وهو ما يعني خسارة الملايين من الأميركيين وظائفهم، فضلاً عن عديد من برامج الرعاية الاجتماعية والصحية التي يعتمدون عليها، في ظل أزمة اقتصادية خانقة ترتبت على جائحة كورونا. اللافت أن الأزمة السياسية كانت في داخل حزب الأغلبية، الديمقراطي، والذي يسيطر أيضاً على مجلس الشيوخ وعلى البيت الأبيض. بمعنى، أن الديمقراطيين، نظرياً، يسيطرون على السلطتين، التنفيذية والتشريعية.
المشكلة، أغلبية الديمقراطيين في مجلس النواب لا تتجاوز ثمانية مقاعد فقط، وهذا جيد إذا كان كل أعضائهم متراصّين خلف قرار واحد. أما في مجلس الشيوخ، فالأمر جدُّ مختلف، حيث يتقاسم الديمقراطيون السيطرة عليه مع الجمهوريين مناصفة، في حين تقدّم نائبة الرئيس، كامالا هاريس، الصوت الترجيحي الذي يحتاجون إليه. وإذا كان التصويت يحسم بأغلبية بسيطة في مجلس النواب، (50 + 1)، فإن الأمر أكثر تعقيداً في مجلس الشيوخ، ولكن هذا موضوع آخر.
مفارقات صارخة في نمط العلاقة المختلة بين من يفترض أنه المُوكِلُ (أميركا) والوكيل (إسرائيل)
وعودة إلى الأزمة السياسية بين الأعضاء الديمقراطيين في مجلس النواب. عندما طرح مشروع قانون لتقديم تمويل طارئ للحكومة الفيدرالية لما بعد 30 سبتمبر، وحتى 3 ديسمبر المقبل، كان من ضمن بنوده رفع سقف المديونية الأميركية الهائلة (28.5 تريليون دولار) تلقائياً، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتم قبل منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. هنا وجد الجمهوريون ضالتهم لوضع العصي في دواليب الديمقراطيين. أعلنوا مباشرة أنهم لن يصوّتوا على رفع سقف المديونية، ملقين بذلك الحمل الثقيل، وغير الشعبي، على كاهل الديمقراطيين وحدهم.
يعلم الجمهوريون أن الحزبين صوّتا دوماً على هذا البند من دون نقاش يذكر، اللهم إلا عام 2011، عندما أرادوا إذلال الرئيس الديمقراطي، حينئذ، باراك أوباما، فماطلوا بالنقاشات. وعلى الرغم من أنه انتهى بهم الأمر بالتصويت حينها، إلا أن نتيجة ذلك كانت وخيمة على الاقتصاد الأميركي، إذ تمَّ تخفيض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني دولياً.
أمام هذه المعضلة، لم يعد أمام الديمقراطيين إلا تمرير مشروع القانون بأصواتهم وحدهم في المجلسين، وهو ما يتطلّب مناورات تشريعية كثيرة في مجلس الشيوخ. إلا أن المعضلة أن خلافات كثيرة تعصف بصفوفهم المنقسمة إلى ثلاثة أجنحة: الوسطيون، ويمثلون الأغلبية. التقدّميون، وهم أقلية ولكنهم أكثر شبابية ونشاطاً. ومن يوصفون بـ"المعتدلين"، ويتمثلون في عضوين في مجلس الشيوخ من ولايتين جمهوريتين، جو مانشن من ويست فرجينيا، وكريستين سينما من أريزونا. هذان هما سبب تعطيل برنامج بايدن تطوير البنية التحتية الأميركية وتوسيع مخصصات البرامج الاجتماعية والصحية، بقيمة 3.5 تريليونات دولار، لأنهما يخشيان خسارة مقعديهما في الانتخابات المقبلة، وهو ما أثار غضب التقدميين في مجلس النواب، فهدّدوا بتعطيل أي مشروع قانون لتمويل الحكومة الفيدرالية ما بعد نهاية سبتمبر، إن لم يكن هناك تصويت على مشروعيِّ القانونين معاً.
اتفق الجمهوريون والديمقراطيون على دعم عدوان دولة أجنبية، إسرائيل، ولم يتمكّنوا من الاتفاق على خدمة مصالح ناخبيهم
في خضم هذه الفوضى العارمة في الحزب الديمقراطي، واحتمال أن تُفلس الحكومة الفيدرالية وخسارة ملايين الأميركيين وظائفهم والخدمات التي يحصلون عليها، نجح بعض النواب الديمقراطيين في إدخال بندٍ جديد على مشروع قانون تمديد تمويل الحكومة الفيدرالية. تمثل هذا البند في تمويل طارئ بقيمة مليار دولار لتحديث نظام القبة الحديدية الإسرائيلي، وهو نظام دفاعي صاروخي، تستخدمه إسرائيل في اعتراض الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية، خصوصاً من قطاع غزة. رفض التقدّميون ذلك بقوة، وكاد قرار تمديد تمويل الحكومة الفيدرالية أن يسقط، فلدى التقدميين أكثر من ثمانية أصوات في مجلس النواب، فاضطرّت قيادة الديمقراطيين إلى سحب هذا البند من مشروع القرار. كانت المفارقة، أن يقدّم ديمقراطيون، في اليوم التالي، بند تمويل القبة الحديدية في مشروع قانون مستقل، وتصويت جمهوريين هذه المرّة معهم بأغلبية مطلقة، بنسبة 420 مع، تسعة ضد، واثنين امتنعا عن التصويت. لقد اتفق الجمهوريون والديمقراطيون على دعم عدوان دولة أجنبية، هي إسرائيل، ولم يتمكّنوا من الاتفاق على خدمة مصالح ناخبيهم ووطنهم الأميركي!
إذا لم تكن هذه مفارقة صارخة فاضحة، فماذا يا ترى تكون؟ الأدهى، كان في مرافعات نواب جمهوريين اتهموا فيها نواباً ديمقراطيين بـ"معاداة السامية"، لأنهم قدّموا مصالح ناخبيهم الأميركيين على تمكين إسرائيل من شنِّ مزيد من العدوان على الفلسطينيين! تُرى، وماذا عن معاداة المصالح الاستراتيجية الأميركية؟ وماذا عن معاداة مصالح الشعب الأميركي المنكوب بـهؤلاء؟ في الولايات المتحدة، ينام ملايين الأميركيين جائعين، ومثلهم مشرّدين في الشوارع، وعشرات ملايين آخرين أغرقتهم الديون، ومع ذلك، لا يجدون كثيراً من البواكي لهم بين "ممثليهم" في الكونغرس. أحياناً، وأنا أتابع هذه المشهد السوريالي، أنسى أني أعيش في الولايات المتحدة، وأظن أني عدت إلى بعض دولنا العربية التي ينخرها الفساد.