اللاجئون السوريون في تركيا.. حياة مضطربة وخيارات صعبة
سنوات طويلة منذ بدء الحراك الثوري السوري في وجه الدكتاتورية الأسدية في سورية، وما تبع ذلك من مآس وأهوال مرّت وتمر على رأس المجتمع السوري الحر، كثمن طبيعي لمسيرة التغيير نحو دولة العدل والحرية والقانون.
اللجوء من أقسى التجارب التي عاشها ويعيشها السوريون في قارّات العالم أجمع، ومما زاد هذه المرحلة صعوبةً طول أمد الأزمة السورية، ودعم بعض الجهات الدولية الدكتاتور بشار الأسد في حربه على الشعب السوري، في ظل تقاعس باقي الدول الفاعلة عن محاولة إنهاء هذه الكارثة، وفشل النخب السورية في إيجاد مخرج حقيقي للسوريين من هذه الحرب الظالمة للوصول إلى دولة سورية تضمن حقوق الجميع.
منذ بداية الأحداث، برزت تركيا أكبر مستضيف للاجئين السوريين، وكانت الدولة الأكثر تفاعلاً بإيجابية مع اللاجئين السوريين أيضاً، لذا عانت وتعاني من تبعات ملفّ اللجوء السوري على المستوى الداخلي مع الاستغلال البشع الذي تقوم به بعض الجهات السياسية لاستهداف السلطة الحاكمة، والاستفادة من الملف السوري في الحصول على أصواتٍ انتخابية أكثر، ما جعل الحكومة التركية في حالة ارتباك، للموازنة ما بين تحدّيات الاستجابة الإنسانية لأزمة اللجوء السوري وتحدّيات الأمن القومي للدولة التركية والضغط الشعبي المتزايد بسبب تشويه طبيعة قضية اللجوء السوري من بعض العنصريين.
في السنوات والأشهر التي تبعت الانتخابات البلدية أخيراً، والتي خسر فيها حزب العدالة والتنمية التركي بلديات مهمة، في مقدمتها بلديتا أنقرة الكبرى وإسطنبول الكبرى، ترسَّخت لدى القوى السياسية التي تفتقد إلى رؤية وبرنامج سياسي حقيقي أهمية استغلال ملف اللجوء السوري في محاولة لكسب الانتخابات التركية، حيث أطلقت حملاتٍ عنصرية محملة بخطاب كراهية ضد اللاجئين السوريين باتت تتصاعد وتيرتها في الأشهر الأخيرة بشكل خطير وممنهج، ضاربة عرض الحائط الآثار الكارثية المترتبة على ذلك.
عدم حصول السوريين على الصفة القانونية للجوء في تركيا بسبب موانع في القانون التركي أدّى إلى ضعف المكانة القانونية وصعوبة الوصول إلى استقرار قانوني
درج تحميل اللاجئين السوريين تبعات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، مثل التضخم والأزمات التي عصفت بالأسواق التركية كما عصفت بأسواق دول العالم بعد أزمة كورونا، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات التركية وتزايد استغلال جهات تركية معارضة الملف سياسياً وإعلامياً، سعياً إلى إثارة حالة من الغضب لدى الشارع التركي، في محاولة لحصد أصوات الناخبين المناهضين لسياسة الحزب الحاكم تجاه ملف اللجوء، وبدأت تبعات هذه الحملات، وما نتج عنها من غضبٍ عند بعض شرائح المجتمع التركي تلقي آثارها السلبية الخطيرة على اللاجئين السوريين، الأمر الذي برز بوصفه أحد انعكاسات خطاب الكراهية المستمر ضدهم، من حيث تهديد استقرارهم وأعمالهم وحياتهم وإعاقة اندماجهم وتأقلمهم.
عدم حصول السوريين على الصفة القانونية للجوء في تركيا بسبب موانع في القانون التركي أدّى إلى ضعف المكانة القانونية وصعوبة الوصول إلى استقرار قانوني للسوريين الذين حصلوا على حق الحماية المؤقتة، بحسب قانون أصدرته السلطة التنفيذية في عام 2013، لتنظيم وجودهم على الأراضي التركية، وكذلك من يحمل منهم الإقامات الأخرى على اختلاف أنواعها، جعلهم في وضع قانوني هشّ، ما يجعل اللاجئ السوري يعيش حالةً من القلق حيال المطالبة بحقوقه عبر مؤسسات إنفاذ القانون في تركيا، خوفاً من أن يجد نفسه في مراكز الترحيل، كما حصل مع بعض السوريين، وغير ذلك من التجارب والقصص التي تؤكّد ضعف المكانة القانونية للسوريين في تركيا.
الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها اللاجئون، وما يتبعها من اختلاف البيئات الاقتصادية التركية والسورية، ومن ثم الأزمات العالمية وتأثيرها على الاقتصاد التركي من تضخّم وغيره، وغياب حالة الاستقرار والحماية لدى التجار والعاملين السوريين، أسهمت وتسهم في ضعف أحوال السوريين، وتراجع إمكانية تأقلمهم مع المجتمع التركي، وسعيهم إلى البحث عن هجرة جديدة إلى بلدانٍ تكفل لهم وضعاً اقتصادياً أكثر استقراراً.
خوف وترقب وعدم استقرار يحيط بالسوريين في تركيا، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات التركية
ضعف الاتصال بين المجتمع السوري اللاجئ والجهات المختصة بشؤون اللاجئين في تركيا ولّد تحدّيات كثيرة لجميع الأطراف، خصوصاً مع فقدان قنوات الاتصال المباشرة، وبالتالي صعوبة وصول خطط الحكومة ومطالبها إلى المجتمع السوري، وأيضاً صعوبة الإحاطة بقضايا المجتمع السوري من الحكومة التركية، ما يعني زيادة صعوبة التعامل مع تحدّيات اللجوء السوري في ظل التعداد الكبير للاجئين السوريين وطول المدة، والظروف المحيطة بملف اللجوء السوري في تركيا.
الفوضى الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن يقف خلفها من جهاتٍ ذات أجندات عنصرية، تستغل ملف اللاجئين السوريين، مستخدمةً شتّى أنواع الحيل والأكاذيب لصناعة صورة "السوري الافتراضي"، كما تريد له هذه الأجندات العنصرية (جاهل، غير مبال، لا يحب بلده، السوري يشكل خطراً على المجتمع والهوية التركيين، وغير ذلك من الصفات التي لا تناسب وحقيقية اللاجئين السوريين في تركيا)، فتصوّره عدواً للمجتمع، في محاولة لبناء جدار فصل نفسي بين المجتمعين، التركي والسوري، وبالتالي منع أي فرصة مستقبلية للتأقلم بين المجتمعين، خوفاً من فقدان الورقة الانتخابية الوحيدة من يد بعض الجهات السياسية التركية المعارضة.
غياب إمكانية تطبيق استراتيجية فعالة لمعالجة ملف الهجرة في تركيا بسبب الحملات العنصرية المتصاعدة التي تستهدف هذا الملف والعاملين فيه، وتراكم القرارات والتصريحات الرسمية وغير الرسمية التي أوجدت حالة من القلق عند المجتمع السوري، وبالتالي قيّضت شعور السوريين بالأمان والاستقرار.
وإلى جانب غياب البرامج الفعالة للتعامل مع زيادة التحدّيات والضغوط التي يرزح تحتها المجتمع السوري اللاجئ، برز غياب هيئة رسمية مختصة بشؤون اللاجئين السوريين في دول اللجوء حول العالم، تعمل على مواجهة العقبات والتحدّيات التي تعترضهم، وتسعى إلى تحسين ظروف لجوئهم وتدعم تكيفهم في دول اللجوء، كأحد أهم أسباب هذه التحدّيات.
يمكن لدبلوماسية إنسانية فاعلة تتبنّاها دول ومؤسسات دولية مهتمة بالشأن السوري التخفيف من وطأة الضغوط على ملف اللجوء في تركيا
باتت الأمور تفوق قدرة السوريين على احتمال التغيرات المتسارعة، وما تحمله من حالة خوف وترقب وعدم استقرار، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات التركية التي سوف تمتد بين انتخابات رئاسية ومحلية لسنتين على أقل تقدير، وما سيتبعها من ردود فعل غير منضبطة، يمكن أن تودي بحياة عوائل كثيرة غرقاً في رحلة لجوء جديدة، أو إيجاد مجتمعات منغلقة تشكّل بيئة جاذبة للأفكار السلبية. لذا وعلى الرغم من التحدّيات والصعوبات الكبيرة، ما زال الوقت متاحاً للقيام بمبادرة استجابة جريئة وسريعة تتخذ خطوات فعالة لمعالجة ملف اللجوء السوري في تركيا. ويمكن لدبلوماسية إنسانية فاعلة تتبناها الدول والمؤسسات الدولية المهتمة بالشأن السوري أن تعمل على إيجاد حلول عملية للتخفيف من وطأة الضغوط على ملف اللجوء في تركيا، من خلال:
أولاً، إتاحة خيار اللجوء إلى بلد ثالث لقسم من اللاجئين السوريين في تركيا. ثانياً، دعم المجتمع المدني السوري، وتنمية قدراته في مجال الاتصال والحماية وحقوق الإنسان. ثالثاً، العمل على تهيئة الشروط الضرورية لمشروع العودة الطوعية المستدامة لمن يرغب من اللاجئين السوريين من الأمن والاحتياجات الأساسية والبنية التحتية الملائمة والتماسك الاجتماعي وتهيئة البيئة الاقتصادية. خامساً، تأسيس الهيئة الوطنية للاجئين والمهجّرين السوريين كمنظومة مدنية تحت إشراف المسؤولية المجتمعية المشتركة بين كل من الجهات الرسمية المتمثلة بالائتلاف الوطني السوري ومؤسسات المجتمع المدني التخصصية وهيئاته، مع ضمان استقلالية الهيئة إدارياً ومالياً لتمكينها من القيام بمهامها والوفاء بالتزاماتها، تبدأ بصياغة رؤيتها وأهدافها ونظامها الداخلي، وتعمل على متابعة شؤون اللاجئين السوريين، وتحسين ظروفهم، وفق المواثيق الدولية والقرارات الأممية والقانون الدولي الإنساني، كما تعمل على ضمان الاستفادة من التجارب والخبرات الدولية السابقة في الاستجابة للنزاعات وقضايا اللجوء، وما تبعها من مواثيق ومبادرات دولية تناولت حلولاً استثنائية عاجلة، وما قدّمته من أدوات ووسائل مرتبطة مع هيئات الأمم المتحدة لتنظيم المجتمع المهاجر في شتى الدول.