اللبناني بين محطة فيروز ومحطات الغاز والنفط
ما إن أعلنت شركة نوبل للطاقة الأميركية في 22 يونيو/ حزيران 2010، بعد فحوص زلزالية ثلاثية الأبعاد، عن اكتشافها آبار نفط وغاز في المياه، حتى أكدت ما كانت شركة P.G.S اكتشفته، متحدّثة عن وجود حقل هائل للغاز، يسمى لفيتان يحوي ما لا يقلّ عن 16 تريليون قدم مكعب، وذلك في منطقة امتياز لها في البحر المتوسط، قبالة الشواطئ اللبنانية في منطقة بحرية دولية بين حدود فلسطين البحرية وقبرص.
قضية التنقيب عن النفط والغاز في لبنان قديمة، تعود إلى عهد الانتداب الفرنسي الذي بدأ الاهتمام بدراسة وجود آبار النفط والغاز واكتشافه في الدولة اللبنانية، إلا أن الضغوط السياسية، وظروف الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي في البلاد، وصعوبة استخراج النفط في الماضي، كلها عوامل أخّرت عمليتي التنقيب والبحث. وقد أكّدت أحدث دراساتٍ، نشرتها مصادر مقرّبة من وزارة الطاقة اللبنانية، أن بحر لبنان يعوم على غاز يقدر بحوالي 122 تريليون قدم مكعب و30 إلى 40 بليون برميل من النفط الخام.
الضغوط السياسية، وظروف الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي في البلاد، وصعوبة استخراج النفط في الماضي، كلها عوامل أخّرت عمليتي التنقيب والبحث
مرّت المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، بحضور وسيط أميركي، بسلسلة تعقيدات وعرقلات لم توصلها إلى آمال زرعها المسؤولون في عقول الشعب اللبناني، وبأنّ المحطة أصبحت جاهزة تنتظر مرور قطار النفط والغاز لتقلّ لبنان إلى مرتبة بلد نفطي بامتياز. وعلى وقع الفشل الحاصل في مفاوضات رسم الحدود البحرية، قال وزير سابق للنفط في دولة خليجية للبنانيين: لا تكونوا رومانسيين إلى حد التأثر بمسرحية الأخوين رحباني "المحطة"... أخيراً، وصل القطار الذي صنعه خيال فيروز، والذي أقلّ كل سكان أهالي القرية، لتبقى هي وحيدة في أرض مهجورة.
أماني وبعدها تمنيات بأنّ استخراج الثروة النفطية بات قريباً، هذا ما يعمل المسؤول على ترويجه في خيالات الشعب، ليتفنن في هدره المال العام، مستخدماً سياسة الإلهاء للمواطنين، جاعلًا منهم شخصياتٍ من مسرحيته، منتظرة مرور القطار في محطة رسمتها وردة (فيروز في مسرحية المحطة) في خيالهم، وبأنّ الغد هو حتماً أفضل، وسياسة إعادة النمو لأسوأ وضع اقتصادي يعيشه لبنان منذ تأسيسه ستبدأ بعد وصول القطار، فهل تنتهي المفاوضات إلى ترسيم الحدود، ويمر القطار الذي بشّر به المسؤول بأنّ "لبنان بلد نفطي" وينقل اللبناني إلى حياة أفضل وينقذه من وضعه الاقتصادي؟ أم ستظل عالقة بين سندان الكيديات السياسة الداخلية في لبنان، ومطرقة طمع العدو الإسرائيلي في مياه لبنان الإقليمية، فيمر القطار ويقلّ الجميع، ويبقى اللبناني كما وردة ينتظر وحيداً وهماً خيالياً؟
مسرحية المحطّة لبنانية من تأليف الأخوين الرحباني، أدّت بطولتها فيروز. قدّمت عام 1973، للمرة الأولى على مسرح البيكاديللي في بيروت. موضوعها محاولة وردة إقناع الناس بأن الحقل الذين يعملون فيه هو في الحقيقة محطة للقطار، وأن هذا القطار سيأتي حتماً، ليأخذ السكان إلى مكان أفضل. وتجتمع أوجه الشبه بين محطّة القطار التي افتتحها رئيس البلدية في المسرحية الشهيرة، حيث ابتاع الناس البطاقات، وانتظروا وصول القطار أياماً في المحطة، ومحطة استخراج النفط والغاز التي افتتحها المسؤولون في لبنان في خيالات المواطنين الذين لم يتوصلوا بعد إلى اتفاقات بين بعضهم أولاً، لتقديم موقفٍ موحدٍ يفاوضون العدو والوسيط على أساسه. اختلفوا على تشكيل اللجنة المفاوضة، وعلى خطوط الترسيم، وبانت التخوينات بين المعنيين، بينما الإسرائيلي قد يبدأ بالتنقيب في بئر كاريش، لحاجة الغرب إلى الغاز الطبيعي المسال، البديل عن الغاز الروسي.
في ظلّ اقتراحات حملها أخيراً الوسيط الأميركي، آموس هوكشتاين، الذي دعا السلطات اللبنانية إلى التوصّل إلى تسويةٍ للنزاع الحدودي البحري مع إسرائيل، قائلاً "إنها اللحظة الأخيرة" للتوصل إلى اتفاقٍ يمكن أن يسهل عمليات استكشاف موارد الطاقة، قال هوكشتاين في مقابلة متلفزة مع قناة "أل بي سي أي" التلفزيونية اللبنانية "أعتقد أننا في لحظة سد الفجوات للتوصل إلى الصفقة، ولم يعد هناك وقت لاحق".
يبقى اللبناني يتخبّط في خلافاته، وبعيداً كلّ البعد عن بدء الحفر والتنقيب في مياهه الإقليمية
صحيح أن البيان الذي خرج من قصر بعبدا، بحضور رؤساء الجمهورية ميشال عون، ومجلس النواب نبيه بري، والحكومة نجيب ميقاتي، أصرّ على عدم تنازل لبنان عن حقوقه، لكن هناك انقساماً واضحاً بين اللبنانيين بشأن رؤيتهم إلى حقوقهم في المنطقة البحرية المتنازع عليها، ففيما يرى بعضهم أن حق لبنان بالنقطة 23، يرى آخرون الحق في النقطة 29. والانقسام ليس خلاف لبنان الوحيد، وإنما هناك تخوّف لدى حزب الله من أن يكون الهدف من التسوية تمرير التطبيع الاقتصادي مع العدو الاسرائيلي، ولهذا عاد الحزب وعرقل عملية المفاوضات التي كان قد وافق عليها ضمنياً. كما قد يستغلّ الحزب حاجة الأميركي لتحقيق التسوية من خلال ربط الترسيم بملف إيران النووي، سيما أنّ هناك توجهاً لدى الإدارة الأميركية لرفع العقوبات عن إيران، وشطب الحرس الثوري الإيراني وحزب الله عن لائحة الإرهاب.
أخيراً، طال انتظار وردة وأهل الضيعة، وبدأ اليأس والقلق يسيطران على الناس المتذمّرين، وكان التمرّد على وشك أن يتفجر عندما وصل القطار حقيقة إلى المحطّة، فصعد إليه الناس، تاركين وردة التي لم تتمكّن من الحصول على بطاقة، وحيدةً في المحطة التي اخترعتها، فبينما تضخّ إسرائيل بالفعل الغاز من حقول بحرية ضخمة، وأمام الإلحاح الأميركي للوصول إلى تسوية، يبقى اللبناني يتخبّط في خلافاته، وبعيداً كلّ البعد عن بدء الحفر والتنقيب في مياهه الإقليمية، في الوقت الذي جلّ ما يحتاجه عائدات النفط والغاز.