اللبناني والوسواس الفكري من الحرب
يسير كل شيء اليوم في لبنان بوتيرة شبه طبيعية، إلا النفسية، فهي متعبة ومرهقة، إذ كلما اجتمع اثنان كان السؤال "شو قولك... في حرب؟" ثالثهما. المدارس والجامعات والأشغال والمطاعم والمولات، جميعها لم تزل تعمل رغم حالة القلق التي تحوّلت إلى حالة من الوسواس الفكري عند اللبناني، لأن "الحياة يجب أن تستمر".
الوسواس الفكري، بحسب علم النفس، مجموعة من الأفكار التي تتسلّط على عقل الشخص، فيفكّر بها دائماً ولا يستطيع مقاومتها، وتفرض نفسها عليه بالقوة. هذا ما هو عليه اللبناني اليوم في خوفه من وقوع الحرب، إذ بات يعيش عوارض الحرب، من دون أن تكون، باستثناء ما يحصل في المنطقة الأمنية التي تشهد حربًا بين حزب الله والجيش الإسرائيلي على الحدود الجنوبية للبنان، حيث تفرض عليها قواعد الاشتباك.
يحرص حزب الله، في الوقت الحاضر، على عدم توسيع دائرة الاشتباك وانتقالها إلى الداخل اللبناني، فهو في هذه الوضعية يعتبر أنه يحقق إنجازاتٍ من خلال استهدافه مراكز وجنودا وآليات عسكرية للإسرائيلي، كما يعتبر حضوره في هذه الحرب مهمًا، لأنه يستنزف العدو، ويجعله يعيش حالة تأهب دائم تحسّبًا لهجوم كبير قد ينفّذه الحزب.
جبهة جنوبية أراد الحزب منها تخفيف الضغط على "حماس" في غزّة من خلال جعل العدو يضع نصف قواته على الجبهة الشمالية، الأمر الذي يجعله يعيش قلق الحرب، وهذا ما برز من خلال إخلائه مستوطناتٍ كثيرة في الحدود مع لبنان.
لم تقع الحرب المنتظرة، ولكن ما هو أشدّ خطورة منها تردداتها على النفسية اللبنانية
يمسك حزب الله بقواعد الاشتباك في الجنوب، ويدرك أيضًا أن أي انزلاق يفتح المنطقة على حربٍ لا هوادة فيها؛ فالخارجية الأميركية لم تزل توجّه تهديداتٍ عالية النبرة لعدم جرّ لبنان ودول أخرى إلى الحرب مع إسرائيل، إذ شدّد المتحدّث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، سام ويربيرغ، على أن بلاده لا توجّه أي تحذير إلى لبنان أو الشعب اللبناني، حول الدخول في الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، موضحًا أن التحذير موجّه إلى حزب الله وإيران أو أي من الوكلاء الممولين من إيران في المنطقة.
لم تقع الحرب المنتظرة، ولكن ما هو أشدّ خطورةً منها تردداتها على النفسية اللبنانية، وجعل اللبناني يعيش قلق الوجود بين أن تكون الحرب أو لا تكون، فقد بدأت عوارض القلق الفكري بالظهور، إذ نزح نحو 29 ألف شخص في لبنان جرّاء التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل في المنطقة الحدودية، تزامنًا مع الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزّة، وفق ما أفادت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، 27 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وأوردت المنظمة أن التصعيد عبر الحدود الجنوبية مع إسرائيل أدّى إلى حالة من الرعب والخوف عند اللبناني من الحرب وويلاتها. وحذّرت من أنّ النزوح يربك نظامًا اقتصاديًا وصحيًا هشًّا أساسًا، وقد يراكم أعباء المجتمعات المضيفة على وقع الانهيار الاقتصادي المستمر في لبنان منذ عام 2019، والذي بات خلاله غالبية السكان تحت خطّ الفقر.
قد يكون اللبناني اعتاد على حالة القلق الفكري المسيطرة خوفًا من وقوع الحرب مع العدو
من نعم الله على اللبناني قدرته على التأقلم مع التقلبات الشديدة في ظروف حياته، فقد اكتسب هذه الملَكة نتيجة ظروف البلد التي لم تشهد استقرارًا منذ سنوات طويلة، فغدت لديه النزعة إلى الفردية، يلجأ إليها كل مواطن عند محاولته في كل ظرف تأمين عدّة الصبر والصمود، وما عليه حينها سوى التحوّل من وضعيةٍ إلى أخرى. ولهذا ترى اللبناني في التاريخ الحديث، خصوصًا في السنوات الخمس الأخيرة، متنقّلًا بسرعة بين الوقائع، بدءًا من الظروف الاجتماعية والسياسية التي فرضتها ثورته، إلى تعايشه مع جائحة كورونا، رغم الإمكانات الطبية الخجولة يومها، إلى تعامله مع الشحّ الذي أصاب المواد الغذائية والدواء، والوقوف على الطوابير وتفنّنه في الاستفادة من "صيرفة" التي أوجدها الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، حيث وجد فيها اللبناني دخلًا إضافيًا يستحصل عليه من سعر السوق للدولار والسعر الذي تحدّده صيرفة، وصولًا إلى فراغ رئاسي دخل عامه الأول، وحكومة تصريف للأعمال، توهمه أن لديها خطّة "لاحتواء" الحرب إن وقعت.
قد يكون اللبناني اعتاد على حالة القلق الفكري المسيطرة خوفًا من وقوع الحرب مع العدو، ربما بدأ في التعايش معها في ظلّ الحديث الدائر داخل الكيان الإسرائيلي إن الحرب ستطول، وقد تشمل المنطقة برمّتها. قد تكون حرب الاستنزاف التي يقوم بها حزب الله في الجنوب تهدف إلى جعل اللبناني قادرًا على "التأقلم" مع الحرب. لهذا عليه أن يتعايش مع كل الظروف التي تحيط به. فعلى سبيل المثال، كان استئجار المنازل في المناطق التي قد تكون آمنة، مدة عام وليس لشهر أو شهرين كما كان الحال في حرب تموز 2006.
جعلت حالة "حرب أو لا حرب" اللبناني يُصاب بالوسواس الفكري، ولكنّها، في الوقت عينه، جعلت اللبناني الآخر في المناطق التي تُعدّ آمنة تاجرًا مستغلًا خوف أخيه الإنسان، إذ استغلّ الوضع القائم، ورفع أسعار الشقق للإيجار، أو بدأ في احتكار السلع الأساسية والأدوية للاستفادة من رفع أسعارها عبر المضاربات، وسط غياب الدولة ومؤسّساتها. لهذا، تزداد الأمور في لبنان تعقيدًا وسخونة على كل المستويات، وسط حديثٍ بدأ يطفو إلى العلن، أن "الستاتيكو" في الجبهة الجنوبية قد يسقط، ويدخل لبنان إلى أتون الحرب، عندها سيتحوّل الوسواس الفكري إلى حالة خوفٍ حقيقي لن يستطيع أحد التأقلم معها.