اللبناني ومتلازمة التخزين
لا يكاد اللبناني يخرج من أزمةٍ أو صدمةٍ نفسية إلا ويقع في أخرى، تكون عليه أشدّ تأثيرًا من سابقتها. وكأنّ لبنان، البلد الصغير في جغرافيته، يعيش لعنة المسؤول الذي لم يؤمن يومًا بوطن، بل بدويلاتٍ تحت سقف الدولة. هكذا وصفه المفكر اللبناني، كمال الصليبي في كتابه "لبنان منزل ببيوت كثيرة"، في دلالةٍ واضحةٍ على تغليب لغة التقسيم والشرذمة على لغة الدولة والمؤسسات.
منذ ما قبل الاستقلال وفكرة الاحتكار الناتجة عن جشع التجار المتحصّنين خلف الحمايات السياسية ترافق اللبناني وتؤرّق مضاجعه لتجعل عنده عقدة التموين خوفًا من انقطاع السلع أو ارتفاع أسعارها. وقد جرى تشخيص هذه الحالة النفسية الغريبة على المجتمعات من المختصّين في مجال التحليل النفسي بـ"متلازمة التخزين".
يشتهر اللبناني بأمثاله الشعبية التي تتطابق مع الواقع المعاش. لهذا كان المثل "خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود"، تعبيرًا عن متلازمة التخزين عنده؛ لأنّ الخوف من فقدان الحاجات والسلع والمواد الأساسية ومشتقات النفط، أو حتى ارتفاع أسعارها، كان رفيق اللبناني في زمن الحرب كما في زمن السلم.
أصبحت مؤسسات الدولة مختصرًا عن حرب أهلية، ولكن بطريقة التوظيف السياسي والمحسوبيات
لم يكد اللبناني ينتهي من مخلفات الحرب الأهلية التي مرّ بها، على الصعد كافة، سيما النفسية، إلا ووقع في أزماتٍ أعادت إلى أذهان كثيرين، صور ذلك الماضي المثقل بالويلات وبالخوف والوقوف في طوابير الذل لتأمين أبسط مستلزمات العيش. فالانهيار الكبير الذي أصاب لبنان بعد حراك 17 تشرين الأول (2019) أدّى بالبلاد إلى "السقوط الحرّ"، حيث تهاوى الاقتصاد، فضلًا عن التفلت من كل أشكال الرقابة، ما أحدث أسواقًا سوداء، حتى على سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار.
في خضم صراع اللبناني للبقاء على قيد الحياة، يعتمد المسؤول سياسة الإلهاء على الشعب، من خلال إدخاله في جدال بيزنطي عن الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في 15 مايو/ أيار المقبل. اذ لا خطابات انتخابية يقدّمها المرشّحون تحاكي الأزمات الموجودة، فالخطاب يعتمد على تغذية روح الطائفية واللعب على الغرائز المذهبية والفتنوية. هذا ما يظهر أن إرادة التقسيم والمحافظة على البيوت الطائفية لم تمت، بل هي نائمة في مكنونات الذات الإنسانية عند اللبناني، فالزعيم جلّ ما فعله ممارسة التوظيف السياسي والطائفي والمناطقي على حساب المصلحة العليا للدولة. لهذا أصبحت مؤسسات الدولة مختصرًا عن حرب أهلية، ولكن بطريقة التوظيف السياسي والمحسوبيات.
تنجح الطبقة السياسية اللبنانية في التجديد لنفسها دوريًا لأن النظام اللبناني نظام زبائني يربط الناس بالأحزاب الطائفية الكبرى عبر آليات التوظيف وعبر توزيع الخدمات والمشاريع المهمة، وكل ما يتخللها من فساد، ما يخلق جيشًا من الناس الذين لا يستطيعون الابتعاد عن المتحكمين بحاضرهم ومستقبلهم ولقمة عيشهم.
الخوف من انقطاع السلع والأدوية، والرعب من ارتفاع أسعارها، إذ لا رقابة جدّية من الدولة، أوقع اللبناني في متلازمة "الطابور"
صحيحٌ أن لبنان يتأثر في أزمات العالم، ولكن المسؤول اللبناني يتفنن في استغلال الأزمات لإذلال المواطنين وجعلهم رهائن احتكاره السلع التي تشكّل أساسيات حياة المواطن، فعلى صعيد متصل بملف الدواء، يذكر أحد الصيادلة أن شركات استيراد الأدوية باتت تعمد إلى تعميم رسائل نصية شهرية عبر تطبيق "واتساب" تعرض فيها لوائح بالأدوية المتوفرة في مستودعاتها، والكمية المسموح بها لكل صيدلية، والتي لا تتخطّى العلبتين من كل صنف دواء في أحسن الأحوال، على قاعدة العرض والطلب في سوق الدواء التي تعاني من متلازمة "الاحتكار".
لم تقف متلازمة الاحتكار عند شركات الأدوية، ولا عند الصيدلي الذي بدوره يستغل حاجة المواطن ليبيعها في السوق السوداء، بل أيضًا هي موجودةٌ عند أصحاب الشركات الموزّعة للنفط ومشتقاته، وعند أصحاب المحطّات أيضًا، ومحتكري المواد الأساسية كالطحين والزيت التي فقدت من الأسواق وارتفعت أسعارها، عازين ذلك إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا، على الرغم من التطمينات التي يحاول وزيرا الاقتصاد والطاقة إطلاقها للمواطن، تحت عنوان "لا داعي للهلع". هذا ما أوجد الخوف عند المواطن من انقطاع السلع والأدوية، الأمر الذي تحوّل عنده إلى مرض نفسي، فجعله يعيش متلازمة التخزين لها في منزله.
الخوف من انقطاع السلع والأدوية، والرعب من ارتفاع أسعارها، نتيجة التلاعب المستمر في سعر صرف الدولار، في غياب الضوابط، إذ لا رقابة جدّية من الدولة، أوقع اللبناني في متلازمة "الطابور"، إذ أصبح الوقوف في صفّ ساعات كي يملأ خزّان سياراته بالبنزين، أو ليحصل على علبة دواء، شيئاً طبيعياً، من يوميات اللبناني الذي اعتاد الوقوف في طوابير الذل، فعندما يصبح ما هو غير عادي قاعدة أساسية في حياة الإنسان، يكون قد وقع في فخّ المتلازمات.
جزء من أزمة انقطاع أصناف الأدوية التي شهدتها سوق الاستهلاك يعود إلى تهافت اللبنانيين على تخزين الأدوية التي يحتاجونها أعواما
كلمة المتلازمة مشتقة في الأصل من الكلمة اليونانية Sundromos، وتعني التزامن، أي أن ظهور المرض يكون متزامنًا مع ظهور الأعراض، فهي مجموعة من الأعراض والعلامات التي تصف بمجموعها مرضًا معينًا، أو اضطرابًا نفسيًا أو أية حالة غير طبيعية، فكيف إن كانت جميعها تظهر عند اللبناني فور سماعه بأزمة عالمية؟ هذا ما يدفع به إلى الوقوف ساعاتٍ في طوابير كي يستطيع الحصول على السلع في سبيل تخزينها خوفًا من ارتفاع أسعارها، أو فقدانها.
من التداعيات النفسية لإصابة اللبناني بمتلازمة "التخزين" للمواد الغذائية والمشتقات النفطية على أنواعها، إضافة إلى تخزين الأدوية في المنازل، ازدياد ظاهرة إعادة الأدوية إلى الصيدليات، لدواع عدة، منها تغيير الطبيب المعالج نوع الدواء أو شفاء المريض أو وفاته، ما يعني أن جزءًا من أزمة انقطاع أصناف الأدوية التي شهدتها سوق الاستهلاك يعود إلى تهافت اللبنانيين على تخزين الأدوية التي يحتاجونها أعواما، ومن دون سبب منطقي.
أخيرًا، قد لا يلام اللبناني على وقوعه مريض "متلازمة التخزين" لأنه لم يشعر يومًا أن هناك دولة تراقب المحتكر والمستغل للأزمات وتحاسبهما، بل لأنّ الدولة أيضًا قد تمارس الإذلال من ضمن سياسات الكيدية ضمن فريق السلطة الواحدة.