اللغة الإنكليزية في الجزائر
ليس تفسيرا مُقنعا أن الجزائر اتّخذت، أخيرا، بأمرٍ من الرئيس عبد المجيد تبون (وفق بيان رسمي)، اعتماد تدريس اللغة الإنكليزية بدءا من المرحلة الابتدائية (الصف الثالث)، من باب المناكفة مع فرنسا، على ما كتب بعض من كتبوا. وإنما هو نقاشٌ في البلد، شارك فيه خبراء ومختصّون (جاء البيان على هذا محقا)، منذ سنوات، كان يدفع باتجاه تعزيز تعليم اللغة الإنكليزية في المناهج المدرسية، وفي التعليم العالي، وذلك بعد أن سبق للجزائر أن "جرّبت" أن يكون تعليم الإنكليزية في المرحلة الابتدائية في التعليم المدرسي العام بصفة اختيارية وتجريبية محدودة، في مطلع التسعينيات. وعلى ما ذكرت تقارير إعلامية تقصّت ردود الفعل على القرار (الرئاسي)، المعلن في يونيو/ حزيران الماضي، قوبل القرار بترحيب واسع، كان لافتا، في الأثناء، أن كثيرين اعتبروه قرارا استراتيجيا، وهذا صحيح، على نحوٍ ما، إذا ما جرى الدفع باتجاه حضورٍ أكثر للإنكليزية في الفضاء الثقافي واللغوي العام في البلاد، ما سيعني، بالضرورة وبطبائع الأشياء، اقتطاعا مؤكّدا من "نفوذ" اللغة الفرنسية الطاغي والكبير. وفي الغضون، ثمّة مشاعر معلنة يتعمّد أصحابها عدم إخفائها، تستعجل الحدّ من هذا النفوذ، وتتعامل مع هذه اللغة بشيءٍ من الخصومة، سيما وأنها تقيم في الذاكرة المجتمعية والسياق الوطني العام صفتها لغة المستعمر، وإنْ أخذت النخبة المثقفة، منذ عقود، بقولة كاتب ياسين الشهيرة التي اعتبرت اللغة الفرنسية غنيمةً الجزائرين من هذا المستعمر. ويعزّز كل هذا الحماس باتجاه تخفيض نفوذ هذه الغنيمة في البلد بالضرورة تحبيذا للغة الإنكليزية، الأمر الذي عكسه الاستحسان الواسع لقرار الرئيس تبّون، وللتوجّه الذي يبدو أن الجزائر مقبلةٌ عليه، حضور أقوى للإنكليزية في مقابل تخفيضٍ ظاهرٍ للفرنسية.
تُخبرنا مطالعاتٌ أطلّت على النقاش الجاري في الجزائر في هذا الشأن بوجود قوىً مناهضةٍ لأي توجّهٍ نحو زحزحة الفرنسية لصالح الإنكليزية، ليس مستبعدا أن تنشط في تحرّكٍ بغرض "إجهاض" هذا التوجه. وتُخبرنا أيضا بأن ثمّة صعوبات أمام هذا القرار الاستراتيجي الذي يبدو أن صانع القرار ماضٍ فيه، بل وتحدّيات أيضا، بحسب بعض من كتبوا في الأمر، من حيث التهيئة وحلّ إشكالاتٍ في منظومة التعليم العام، سيما وأنه ليس واضحا تماما ما إذا كان تدريس الإنكليزية بدءا من الصف (الفصل) الثالث الابتدائي سيترافق مع تدريس الفرنسية، سيما وأن تدريس اللغة العربية مؤكّد بالطبع (والأمازيغية في مناطقها؟)، أم أن الفرنسية ستغيب في هذه الحالة.
يطلّ المراقب من المشرق العربي على هذا النقاش في بلد عظيم المكانة في أفئدة العرب بعينٍ أخرى، من دون استغراقٍ في التفاصيل المحلية هناك، حيث أخذٌ وردٌّ بين أهل مكة الأدرى بشعابها. ترى هذه العين المسألة من منظور آخر، يقوم على البديهية الذائعة، وموجزها أن حضور أي لغةٍ إنما يعكس حضور الأمة التي تنطق بها، أي يدلّ على فاعلية شعوبها وإسهام حضاراتها في العالم. ولا يُجازف واحدُنا لو قال إنه ليس في وسع الإنسان الحديث، المعاصر، الاستغناء عن معرفة اللغة الإنكليزية، فيما لا يستشعر حاجةً ملحّةً لمعرفةٍ بالفرنسية. هذا واقع الحال، رضي به من رضي وخالفه من أراد أن يخالفه. الإنكليزية هي لغة العالم الأولى، بمعنى لغة العلم والتقنيات الأولى، لغة الدبلوماسية الأولى، لغة الإعلام الأولى. اللغة التي في وسعك أن تتفاهم بها، إلى حد معقول، وأنت في الصين أو ألمانيا أو الأرجنتين. ولا يبخّس هذا التوصيف لأمر واقع من اللغات الأخرى، على صعيد مساهمات ناسِها في مجرى الثقافات الإنسانية والإبداعات الأدبية والفنية. وإذا استشعر الفرنسيون، وهم يولون المسألة اللغوية مكانةً متقدّمة في سياساتهم الخارجية وخياراتهم الثقافية (هل ما زالوا كذلك؟)، امتعاضا من هذا الحال، فلهم هذا. ومن حقوقهم، كما من حقوق غيرهم، أن يعتزّوا بلغتهم وأن يعملوا على نشرها، وعلى حماية موقعها في صدارة لغات العالم، إلا أن للجزائر، ولأي دولةٍ، أن ترى ما تراه يتّسق مع مصالحها الوطنية وخياراتها الثقافية وسياساتها التعليمية والتربوية. .. وعندما تنهمّ، أخيرا، بالإنكليزية، فهذا لا يمكن أن يعني، في أي حال، عداءً للفرنسية، ولا خصومة معها، وإنْ يقيم شيطانٌ في التفاصيل.