الليرة اللبنانية وأخواتها
لليرة اللبنانية شقيقة توأم وثلاث أخوات في الرضاعة. تكونت الليرتان اللبنانية والسورية التوأمان في رحم جيوسياسية واحدة، وجاءتا إلى الحياة في زمن متقارب، بعد استقلال البلدين اللذين كانا قبل ذلك بلداً واحداً، فيما دخلت هاتان الوحدتان النقديتان، أخيرا، في علاقة أخوّة إجبارية مع ثلاث عملاتٍ ليس بينها أي رابط مشترك، سوى رابطٍ سياسيٍّ هجين، ألقى بظله الثقيل على الليرتين الشقيقتين في سورية ولبنان، ناهيك عن الدينار في العراق والريال في اليمن، وحدّث ولا حرج عن اليومان في إيران. تجلى هذا الرابط، على أوضح ما يكون عليه الارتباط بين الأخوات في الرضاعة، عندما حلّق الدولار الأميركي، في الأسبوع الماضي، إلى علو عشرة آلاف ليرة لبنانية، وأشعل موجة احتجاجاتٍ شعبيةٍ عارمة، من المرجّح لها أن تتصاعد أكثر، إذا ما واصل الدولار تحليقه إلى مستوياتٍ أعلى في سماء بلاد الأرز، التي أبحرت تدريجياً إلى حتفها الاقتصادي المصرفي النقدي، بفعل جبروت ذلك الرابط غير الخفي، ونعني به هيمنة حزب إيران المسلح على مقاليد الدولة اللبنانية المغلوبة على أمرها.
لا يحتاج المرء إلى كثير من إعمال العقل، كي يرى ذلك الأثر الكارثي على "الأخوات في الرضاعة"، وتلمّس نتائجه المأساوية على الليرتين والريال والدينار، فيما يسمى محور الممانعة (ممانعة ماذا بحقّ السماء؟) حيث لا يتوقف الانهيار عند حدود انسحاق قيمة العملة فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى انقطاع الكهرباء واستفحال الوباء، واشتداد ندرة الطعام والدواء، وتفاقم مصاعب الحياة، وغيرها من القواسم المشتركة بين دول هذا المحور الذي لا يبخل في إشباع ناسه بالشعارات المجلجلة ضد الظلم والمؤامرة الكونية والاستكبار.
ومع أن ما جرى لليرة اللبنانية في الأسبوع الماضي حدث قبله لليرة السورية أيضاً، إلا أن فاعلية الإعلام المستقل، وحيوية المجتمع المدني اللبناني، سلطتا الضوء بلياقة على عملية الانهيار الأولى التي فقدت نحو 85% من قيمتها، فيما كان انهيار "السورية" أشد وطأة، بعد أن خسرت نحو 99% من قيمتها في الأسبوع ذاته، من دون أن يصاحب ذلك غضبٌ مسموع في البلد المحكوم بقبضةٍ حديدية، أو يثير ضجّة مماثلة، بفعل التعتيم الشديد على ما يجري في "سوريا الأسد"، بما في ذلك انتشار فيروس كورونا وتعذّر الحصول على الغذاء والدواء لملايين من المواطنين المقهورين.
ولعل ما حدث للعُملتين في سورية ولبنان يُعتبر، على فداحته، قليلا قياساً بما جرى ويجري لعملة العاصمة الرابعة الممسوكة من الولي الفقيه، أي في اليمن الذي لم يعد سعيداً بأي معيار، فيما لا يقل الوضع سوءاً في العراق، حيث المليشيات تصول وتجول بغمزةٍ من عين الحرس الثوري، وتتضاعف المعاناة، ويُكابد أبناء البلد الذي بات مجرّد حديقةٍ خلفيةٍ لمركز محور الممانعة، صاحب اليد الطولى في إفقار العراقيين ونهب ثرواتهم، وفوق ذلك سحق عملتهم الوطنية، بدرجة سعر صرفٍ لا يتساوق مع مداخيل بلدٍ غني بالنفط، وفقيرٍ بكل أنواع الخدمات، بما في ذلك الصحة والتعليم.
صحيحٌ أن هناك بلدانا عربية، تعاني عملتها مظاهر انهيار مماثلة، مثل ليبيا والسودان وغيرهما، إلا أن ما ينطق به واقع الحالة النقدية والمعيشية في وحدات محور الممانعة، هو الأشد بؤساً، والأكثر مرارةً، كون عائلة الفقر والمجاعة لم تعد تطرق الأبواب في سورية ولبنان واليمن والعراق، ناهيك عن قائد المحور ذاته، وإنما دخلت من الأبواب والنوافذ، وراحت تهلك الزرع والضرع، وتجعل حياة الناس لا تشبه الحياة في بلاد الناس، سيما وأن الآفاق لدى العواصم الأربع، أو قل الأخوات في الرضاعة، بات مقفلاً على أصحابها، ولا يعد إلا بمزيد من الشيء نفسه.
خلاصة القول، أنه بفضل "بركات" الهيمنة الإيرانية على ما تسمّى دول الهلال الشيعي، وسيطرتها على المقاليد السياسية في العواصم الأربع، تعمّقت مظاهر الاستبداد والفساد وتعطيل المؤسسات والإدارات، وانهارت قيم العملات، تماماً على نحو ما تقصّه علينا المشاهد الآتية من لبنان كل صباح ومساء، حيث يتكفّل الإعلام، على نحو أوضح مما نراه في البلدان الثلاثة الأخرى، بنقل التفاصيل الصغيرة، والآلام الكبيرة، عن مجريات وضعٍ أحسب أنه أقلّ بؤساً في لبنان مما عليه الحال لدى الأخوات في الرضاعة الأخريات.