المبادرة الأميركية وحدود الممكن
المعلوم طبّياً أنّ من غير الممكن إنقاذ حياة مريض بمعالجة أعراض مرضه، من دون معالجة أصل المرض، سواء بالدواء أو بالاستئصال الجراحيّ. يقضي الاكتفاء بمداواة أعراض المرض أو تبعاته يقضي على المريض عاجلاً أم آجلاً. ويبدو أنّ الأميركيين لا يدركون، أو لا يريدون أن يدركوا، أنّ المعضلة العويصة في فلسطين لا تُحلّ، ولم تُحلّ تاريخيّاً، بالوعود والمسكّنات من نوع وعد "الدولتَين" المستحيل صهيونيّاً، أو من نوع "إعادة إعمار غزّة " ولم ينتهِ نتنياهو بعد من تدميرها لكي يُعاد بناؤها المُحتاجُ سنيناً طويلة بسبب حجم الدمار الهائل والمأساوي (!) يحترف الأميركيون منذ عقود طويلة جداً، وبسبب القيد الصهيونيّ المُكبّل، إطلاق الوعود والنوايا والأماني، فيما هم عاجزون عن ممارسة ضغط جدّي على الكيان الذي يرعونه مع حلفائهم الإنكليز والآخرين، من فرط تصهين مؤسّساتهم الدستورية الكبرى ودوائر القرار السياسية والعسكرية، عدا النفوذ العارم للوبي الصهيوني. مع العلم أنّ الأيديولوجيا الأميركية العميقة ليست مختلفة عن تلك الصهيونية، ولا حاجة، بالتالي، إلى لوبي يضغط عليها، فضلاً عن نفوذ شركات السلاح التي تعتمد المال قيمة وحيدة، وتغذّي الصراعات في العالم.
كيف للرئيس الأميركي، جو بايدن، أن يخرج من الصندوق مع حلّ لمشكلةٍ كبرى اختار، منذ البداية، أن يكون شريكاً فيها مُوجّهاً ومُسلّحاً ومُباركاً، بدلاً من أن يمنع، منذ البداية أيضاً، توسّع حجمها واستعار نيرانها؟!... يأتي اليوم مُتأخّراً ثمانية أشهر لاقتراح مَخْرج ما، علّه يُوفّق على أبواب حملته الانتخابية، الصيف المُقبل، في إطفاء الحريق الذي أشعله مع شريكه نتنياهو وخروجه عن السيطرة. تستدعي حملته الانتخابية تقويم و"تجليس" صورته وصورة أميركا، التي اهتزّت في العالم كلّه، وخسرت معالمها حاميةً للديمقراطية والحرّيات، إلى آخر ما هنالك من شعاراتٍ زائفة. يريد الأميركي أن يظهر بمبادرته مُنقذاً وحيداً لصورة أميركا المُهتزّة، ولواقع حزبه الديمقراطي المتراجع والمنقسم، ولصورته الشخصية، ولإسرائيله الحبيبة في الوقت نفسه، أمّا شعب غزّة المنكوب فله الفُتات؛ وعدٌ بوقف دائمٍ للنار (المقصود الإبادة) وإعادة إعمار القطاع المدمّر، وكأنّه بمبادرته التي توزّع "العطاءات" للجميع يُؤدّي أمام شعبه وأمته قسطه للعلا، على طريقة بيلاطس الغاسل يديه من دم الصدّيق الفلسطيني المذبوح والمصلوب، والمطعون، أيضاً، بحراب عرب متخاذلين.
غمامات أيديولوجية تُعمي بصر كلّ رئيس أميركي وبصيرته، فلا يعود يرى نفسه رئيساً للولايات المتّحدة، بل قيّماً على مصير "إسرائيل"
محاولة بايدن، التي سيئدها القاتل النمْرود نتنياهو، لا تتعدّى كونها ذرّاً للرماد في العيون، فالرئيس الأميركي لم يُعطِ حتّى الساعة أيّ إشارة إلى أنّه كفّ عن أن يكون صهيونياً أكثر من الصهاينة، وملكيّاً أكثر من الملك "بيبي"، وليس ثمّة ما يُؤكّد أنّه يُصغي الآن أكثر من قبل إلى صوت العقل والمنطق، الذي سبق أن خاطبه به كُثر في إدارته فلم يأخذ بنصحهم، ما اضطرّهم إلى الاستقالة واحداً تلو الآخر. وينبغي التذكير في هذا الصدد بأنّ بايدن كان مُقرّباً، منذ غولدا مائير، إلى كلّ رؤساء وزراء "إسرائيل"، حتّى أضحت هذه المسألة "هوايته"، إن لم نقل احترافه، وهو صاحب الشعار "العبقريّ": "لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب علينا اختراعها". شعار تقشعرّ له الأبدان، حقّاً. "إسرائيل" هذه بالنسبة إلى بايدن ليست مُجرّد "دولة" ترعاها أميركا وتحتضنها، بل هي "القضيّة"، وهو المُصرّح في الحادي عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد الطوفان بأربعة أيام: "إسرائيل هي الأمل الذي تلهمه والنور الذي تمثّله للعالم". أوف! الأمل والنور للعالم دفعة واحدة؟! "إسرائيل" وليس الولايات المتّحدة المفترض أن يعدّها الرئيس الأميركي الأمل والنور، ويبلغ انفعاله العشقي حدّ القول "إنّها الضمانة النهائية الوحيدة لليهود". والسؤال مرّة أخرى: لِمَ ليست أميركا هي الضمانة النهائية الوحيدة لأحبّائه اليهود ولسائر مُكوّنات المجتمع الأميركيّ؟!
غمامات أيديولوجية تُعمي بصر كلّ رئيس أميركي وبصيرته، فلا يعود يرى نفسه رئيساً للولايات المتّحدة، بل قيّماً على مصير "إسرائيل" ومسؤولاً عنه. هي بالنسبة إليه "نوع من المحكّ الأخلاقي الذي يتجاوز التاريخ والجغرافيا السياسية"، بحسب تعبير خالد الجندي، من معهد الشرق الأوسط في واشنطن، الذي يضيف: "معظم الرؤساء الأميركيين امتلكوا وجهة نظر تتمحور حول إسرائيل في المنطقة، ولكنّهم كانوا قادرين على رؤية متى تمضي إسرائيل بعيداً. بايدن غير قادر على رؤية ذلك، وغير راغب في استخدام نفوذه الهائل لرسم خطوط حمراء صارمة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، ولنقل المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، أو لوقف إمدادات الأسلحة لإسرائيل". لماذا يركّز بايدن على الأعراض وليس على الداء نفسه؟... لأنّه أوّل رئيس ديمقراطي لا يبدي أيّ جهد جدّي في مسألة قيام دولة فلسطينية، ولو تلفّظ بذلك فمن باب رفع العتب ولَوْك الشعارات القديمة لأسلافه، ومن رؤوس الشفاه، ومن حلاوة الروح كما يقال في لساننا الشعبيّ. هذا الرجل لا يفهم العالم العربي، ولا يعي أن قضية فلسطين ما فتئت تحظى بشعبية كبيرة ومُلهِمة، وأنّه خسر وخسّر حزبه عرباً كثيرين كانوا إلى جانبهما. ففضلاً عن عناده الشخصي "تصهيناً"، بايدن محاط بمجموعة متشدّدة من المستشارين والمسؤولين في إدارته، من الصهيوني الآخر المتباهي بيهوديته وصهيونيته وزير الخارجية أنتوني بلينكن، إلى بريت ماكغورك، منسّق مجلس الأمن القومي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي عمل في ملفّ العراق في إدارات بوش وأوباما وترامب، وعاموس هوكشتاين، صاحب الهُويّتَين الأميركية والإسرائيلية، وجوناثان فاينر وجيك سوليفان، وجميعهم صهيونيو الهوى والنهج. ومع ذلك، المستشار الأول لبايدن الأميركيّ هو بايدن الصهيونيّ، ولا يطلب الأول مشورةً إلّا من الثاني، وهنا منبع الفصامية التي تفرمل قرار الرئيس وتمنعه من رؤية المصلحة الأميركية إلّا بالمنظار الإسرائيلي الصهيونيّ.. والولاية المُقبلة لن تكون أكثر تطميناً للشعب الفلسطيني ولشعوب المنطقة، أيّاً يكن إسم الجالس في كرسي الرئاسة الأميركية.