المثقفون العرب ومهمّة الإنقاذ العاجلة
صحيح أنّ هنالك انقساماً أيديولوجياً وفكرياً وسياسياً في أوساط النخب العربية المثقفة، إلّا أنّ أغلبها ينادي، منذ عقود، بالتحرر من الاستبداد، وقاموا بجهود فكرية وسياسية كبيرة، بحثاً عن طريق الخلاص من الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، ونسبة معتبرة منهم دفعت ثمناً كبيراً لذلك، سجناً ونفياً وقتلاً، ولا تزال النخب المثقفة تحاول إيجاد مخرج من الأزمات المتتالية التي تقع فيها المجتمعات العربية، سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً.
التساؤل، هنا، عن دور للمثقفين العرب يتجاوز الحالة القُطرية لكل دولة، ودورهم الملحوظ إلى واقع المجتمعات والشعوب بصورة جمعية، بخاصة مع الأخطار الجديدة التي لا تقلّ خطورةً، ولا فتكاً، من الاستبداد، مثل أمراض التعصّب القومي والعرقي والديني والهويّاتي والطائفي، إذ أصبحت الأصوات المأزومة، والمسنودة بماكينة إعلامية كبيرة، هي الأكثر ضجيجاً ورواجاً، ما غيّب الصوت العقلاني الهادئ الذي يقدّم أجوبة على التحدّيات الكبيرة التي تواجه الشعوب.
أيّدت نخبة عريضة من المثقفين العرب الصادقين المخلصين ثورات الربيع العربي، ووقفت وراء الشباب الذي حطّم جدران الصمت، وقلب المعادلات التقليدية، وهزم ثقافة الاستبداد والديكتاتورية، قبل أن تنقلب عليه الأنظمة السلطوية، وتدخل المجتمعات في أتون نزاعات داخلية وحروب أهلية، تمهّد الطريق للجماعات المتطرفة الكارثية، مثل تنظيم داعش ليختطف آلاف الشباب العرب الذين سلبت حالة الإحباط، وما واجهوه من آلة عسكرية وأمنية دموية، أفكارهم نحو المنهج العدمي الذي قدّمه "داعش".
وعلى الرغم من أنّ المعركة مع السلطوية والاستبداد لا تزال قائمة، بل ما يحدث اليوم هو بعض تجلياتها، إلّا أنّ هنالك أدواراً ومهمات رئيسية تقع على عاتق المثقفين لإنقاذ المجتمعات والثقافة الإنسانية العربية من الوقوع في فخّ "الهويات القاتلة"، بتعبير الروائي اللبناني، أمين معلوف، وإعادة تأطير فكرة الصراع والتقدّم في سياقات جديدة تعالج الأوضاع القائمة.
في مراحل سابقة، وفي مواجهة نزعات الديكتاتورية، أسس المثقفون العرب شبكات ومنتديات مهمة، كشبكة الديمقراطيين العرب، ومراكز حقوق الإنسان، وقدّمت مراكز دراسات مرموقة وعريقة قراءات ودراسات معمّقة دورية للحال العربية، منها مركز دراسات الوحدة العربية، ثم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي حمل مهمة تبني قيم الربيع العربي، في إنتاجه المعرفي والفكري ومؤتمراته العديدة.
وتتبدّى اليوم ضرورة تاريخية قصوى في بناء شبكة كبيرة من المثقفين العرب (فقهاء ومفكرين ورجال دين وأكاديميين وسياسيين) تقدّم خطاباً حضارياً يقوم على البعد الإنساني الديمقراطي الحقوقي، في مواجهة تلك الهويات وموظيفها، لتتبنّى هذه الشبكات المكونة من مثقفين من مختلف الألوان، لهم مصداقية وحضور، قيماً ترفض التضحية بالأوطان والإنسان والكرامة والحرية على مذبح الطائفية أو الهويات العرقية أو الاستقطابات الأيديولوجية والفكرية؛ كما يحدث في دول عربية عديدة اليوم (العراق، سورية، اليمن، ليبيا، الصومال، السودان، لبنان...)، ما يؤدي إلى حالة استنزاف كبيرة لكل الطاقات الإنسانية والمقدّرات والثروات، بل يُدخل المنطقة في نزاعات مسلّحة تهدر فيها مليارات، والنتيجة الرئيسية: هزيمة جمعية وكوارث حضارية وإنسانية وانهيارات أخلاقية واقتصادية ومجتمعية.
خلال أعوام قليلة، وجرّاء الحروب الأهلية والاستقطابات والأزمات الداخلية، أصبح لدينا 40% من مشرّدي العالم، في منطقة يبلغ عدد سكانها 5% من العالم، وبلغ عدد المشرّدين في عام 2014 قرابة 22 مليون مشرّد. في سورية وحدها 6.5 مليون مشرد، و1 من كل 3 مهجر ومشرد، وفي لبنان 1 من كل 5 وفي السودان 1 من كل 10. وفي مقابل كل واحد يذهب ضحية صراع عسكري بصورة مباشرة هنالك 3 - 15 يموتون بسبب سوء الأوضاع الصحية والحياتية، فضلاً عن مئات الآلاف في السجون والمعتقلات ومعسكرات اللجوء في دول عربية عديدة.
ثمة حالة من الضياع الكبرى اليوم، وهنالك ملايين العرب يعانون جرّاء الأحوال الراهنة، فنحن لا نفقد الحاضر فقط، بل المستقبل، ما يجعل من المهمة التاريخية على عاتق النخب المثقفة الصادقة اليوم، بناء مقارباتٍ وتقديم خطاباتٍ وتكوين شبكات لمواجهة الخطابات والتوجهات الفكرية والسياسية الكارثية، وبناء معالم الطريق أمام جيل الشباب، وتحييد الخلافات السياسية والأيديولوجية، بل تأطيرها في حدودٍ لا تؤدي إلى استنزاف الجميع بلا استثناء.