"المحدال" وتنظيف الإسطبلات في إسرائيل
إذا كان ثمّة "بقرة مقدّسة" لدى الإسرائيليين، فهي الجيش. وربما كانت استقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، أهارون حليفا، هي الأولى في أثناء حروب إسرائيل، وليس بعدها، أيّ أنّها حدثت قبل "تنظيف الإسطبلات"، وهو تعبير يُقصد منه عمليات المحاسبة التي تلي الحروب. ليلة السابع من أكتوبر (2023)، كان الجنرال حليفا يقضي إجازته الأسبوعية في إيلات. في نحو الثالثة فجراً، جاءه اتصال من شُعبته، وأُبلغ أنّ ثمّة إشارات بشأن هجوم وشيك من قطاع غزّة. وواضح أنّ الرجل ترك لكبار مساعديه تقييم مدى خطورة هذه الإشارات، وفي حكم المؤكّد أنّه لم يشارك في مداولات تلك الليلة. ووفقاً لما نُسب إليه، فإنّ الخُلاصة التي كان سيصل إليها، لو شارك في تلك المداولات، أنّ الأمر لا يعدو تدريباتٍ تقوم بها "حماس"، وأنّ البتّ في الأمر قد ينتظر حتى الصباح.
كان ذلك خطاً فادحاً، وإنْ لم يكن مستغرباً أو مستبعداً في التقييم، فقد استيقظ حليفا وبنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، بل كامل النخبة الإسرائيلية في المستوييْن السياسي والعسكري، على ثاني أكبر الصدمات الوجودية في تاريخ إسرائيل برمّتها: "حماس" تكتسح مستوطنات غلاف غزّة، وتقتل المئات، ويعود رجالها بغنيمة ثمينة من الأسرى. إنّه "التقصير"، وهو فاضحٌ هذه المرّة، وشائنٌ في تاريخ "البقرة المقدسة" التي قامت إسرائيل وتوسعت بفضلها. "المحدال"، أو التقصير بالترجمة العربية، هو كتاب تُرجمت طبعته الأولى عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية (بيروت، 1974)، وهو من الكتب التي صدرت غداة حرب 6 أكتوبر (1973)، وفيها واجهت إسرائيل ما اعتبرته يائيل دايان، في حينه، خطر فقدان "البيت الثالث" لخراف بني إسرائيل الضالّة، فقد انقضّ الجيشان، المصري والسوري، على سيناء والجولان، بعد ملحمة عبور السويس. كانت أقدام جنرالات تل أبيب ترتجف وهم يروْن، للمرّة الأولى، أنّ احتمال الهزيمة، بل التهديد الوجودي، وارد بقوّة، رغم أنّ نشوة نصر العام 1967 استَبْعَدتْ هذا الاحتمال تماماً. فماذا حدث بالضبط؟ وأين الخلل؟ ومن يتحمّل المسؤولية؟ ... كانت هذه الأسئلة وسواها على طاولة غولدا مائير، والجنرال موشيه دايان، وباقي الفريق الوزاري.
"المحدال" كَتَبَه سبعة صحافيين إسرائيليين، كان بعضهم مراسلاً في الجبهة أو جنديَ احتياط، ويستعرض، إذا شئت، آليات التقصير، وسوء التقاط الإشارات وتقييمها، بل التعامل مع المعلومات على نحو يجعلها حمّالة أوجه، فلا يفيد منها ولا يتّخذ في ضوئها ما يلزم من إجراءات عملية، بل يستمر في التقليل من أهميتها، وربما إنكارها، فالمعلومات عن استعدادات الجيشيْن المصري والسوري لهجوم وشيك كانت موجودة، وكان بالإمكان سماعها في بعض خطابات الرئيس الراحل أنور السادات أو في تغطيات الصحف المصرية، لكنّها، وقد انطوت على عمليات تضليلٍ مُعقّدة، أوحت إلى عسكر القلعة وجنرالاتها بعدم أهميتها، فكانت "لهم عيونٌ ولا يُبصرون"، بحسب أحد عناوين فصول الكتاب. وربما يعود ذلك إلى الغطرسة والاستعلاء، واستبعاد أن يمتلك الآخر عناصر القوّة، والأكثر أهمية؛ الإرادة للردّ عسكرياً بعد هزيمته المذلّة قبل ست سنوات فقط.
يستعرض أحد فصول الكتاب تجربة الغزو النازي للاتحاد السوفييتي في 1941، في مقارنة مضمرة بهجوم 6 أكتوبر (1973)، وكيف تعاملت القيادات في الاتحاد السوفييتي مع المعلومات والإشارات باستهانة أو سوء تقييم كارثي لها، كما فعلت القيادات الإسرائيلية. فقبل ذلك الغزو النازي كانت ألمانيا قد نشرت خمس فرق مدرّعة على طول نهر الفوغ، على حدود بولونيا مع الاتحاد السوفييتي، وكانت واشنطن ولندن وباريس تعرف أنّ ذلك مؤشّر على غزو وشيك، لكنّ موسكو لم تكن تجهله، بل تجاهلته وهوّنت من احتماله واقعياً. لم يستمع جوزيف ستالين ورجاله في موسكو إلى عشرات التقارير المُشفّرة لكبار جواسيسه، وعندما وصلت إليه برقية مُشفّرة من قائد الفرقة الموسيقية الحمراء (الاسم الرمزي لشبكة التجسّس السوفييتية في أوروبا) كان ردّه السخرية من المعلومة ومُرسلها، فكيف لم يشعر ليئو بولد تربر (قائد الفرقة) أنّهم نصبوا له مصيدة فوقع ضحيّة مؤامرة بريطانية دنيئة؟!
كانت برقية قائد الفرقة الموسيقية الحمراء، التي قلّل ستالين من أهميتها، تتضمّن كلّ شيء، حتى موعد الغزو الألماني. بعد 85 عاماً، تُكرّر إسرائيل فشل ستالين، بعد فشلها في حرب 6 أكتوبر، فهل ستفعلها "حماس"؟ وهل تستطيع؟ ... إنّها الغطرسة إذ تنقلب إلى هزيمة مُهينَة ما يجعل حليفا (أو سواه) يستقيل.