المحو والطرد الأكبر في الخيال الصهيوني
لا ينسى كثيرون أن دعوة وزير المال الإسرائيلي الذي يشغل أيضًا منصب وزيرٍ ثانٍ في وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، إلى محو بلدة حوارة الفلسطينية، وتشديده على أن من واجب الدولة نفسها أن تقف ضد ما يوصف بأنه "خصخصة جرائم الحرب"، وأن تتبنّى بنفسها ارتكابها، ليست زلّة لسان، مثلما حاول الإيهام إثر احتجاج الولايات المتحدة، بل هي صادرة عن "نداء" مترسّخ عميقًا في الداخل.
ولعلّ الدليل الأبلغ أن سموتريتش نفسه طرح قبل نحو ستة أعوام ما سماها "خطة الحسم"، والتي تبنّاها حزبه اليميني المتطرّف لدى ختام مؤتمره السنوي المنعقد في سبتمبر/ أيلول 2017 (والقصد حزب "الاتحاد القومي"، سلف حزب "الصهيونية الدينية" حاليًا). وهي خطّة تنصّ على فرض السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، وتكثيف الاستيطان اليهودي فيها، وحلّ السلطة الفلسطينية، وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج. ووفقًا لها، ينبغي العودة، في كل ما يخصّ "البدائل" التي تعرضها دولة الاحتلال على السكان الفلسطينيين الأصلانيين، إلى فحوى الإنذار الذي بعث به يشوع بن نون إلى سكّان مدينة أريحا عشية اقتحامها قبل أكثر من ألفي عام، فيه: "المستعد للتسليم بوجودنا هنا فليُسلّم، ومن يريد المغادرة فليُغادر، ومن يختار القتال عليه انتظار الحرب". والغاية الأهم من هذا كله القضاء كليًا على فكرة قيام دولة فلسطينية، ففي رأي سموتريتش: "ليس اليأس هو الذي يولّد الإرهاب، بل الأمل بقيام دولة فلسطينية، وهذا الأمل هو ما أنوي اقتلاعه"!
فور هَجَس المذكور بخطته تلك، كان ثمّة من استعاد أن "سفر يشوع" من "التناخ" يُعدّ وثيقة مهمة لتعريف خصائص جريمة إبادة شعب في العالم القديم، طبقًا لما ورد بشأن هذه الخصائص ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة "الجينوسايد"، والصادرة في عام 1948. وتمثيلا لذلك، تم إيراد الآيات 24 - 29 من إصحاحُه الثامن، والتي تتحدث عن مصير بلدة "عاي" الكنعانية، التي أغار عليها يشوع، وفشل في الاستيلاء عليها من جرّاء إثمٍ ارتكبه أحد رجاله، ولكنه أعاد الكرّة واحتلّها، وذبح سكانها، وكان عددهم 12 ألفًا، وشنق ملكها على شجرة، وأحرقها.
سرعان ما تمثل أمامنا حقيقة من سموتريتش وخطّته أن المحو والطرد الأكبر، الترانسفير التام، كانا موجوديْن على الدوام في أفق الخيال الصهيوني. ومثلما ذكر أحد الأكاديميين الإسرائيليين الراديكاليين، ثمّة في كل جيل إسرائيلي من يهتمّ بهما ويضعهما هدفًا للتنفيذ. بل وهناك خطّ متسلسل، حتى لو كان متعرّجًا، يصل بين الأعمال التي يُقال إنها فردية، وغير منظمة ظاهريًا، والتي تنفّذها عصابات المستوطنين على غرار اعتداءات "تدفيع الثمن"، ومشاريع الطرد الرسمية لدى إسرائيل. وليس في هذا ما يبعثُ على المفاجأة، ولا ينبغي أن يثير المفاجأة، إذ وُجدت اعتداءات "تدفيع الثمن" وتبلورت في عقول ممثلين رسميين لدولة الاحتلال، في ما تُعرف بـ "المجالس الإقليمية" في الضفة الغربية.
وبموجب الوثائق الإسرائيلية الرسمية التي يُكشف عنها النقاب تباعًا، ظلّ الطرد موضوعًا أثيرًا بعد 1948 وتعزّز أكثر بعد 1967. وتحت غطائه، تتكرّر في كل فترة فكرة "تشجيع هجرة العرب" في الخطاب العام في إسرائيل.
وفي دراسة حديثة، ورد تأكيد أنه على النقيض من التفكير الذي اعتدنا عليه، ليست جذور هذه الفكرة، في أي حال، في هوامش اليمين الإسرائيلي، وإنما في صلب القيادة السياسية في إسرائيل، خلال فترة حكم حزب مباي. فمثلًا، فور انتهاء حرب 1967 بادرت حكومة ليفي أشكول إلى وضع خطّة وفّرت محفزّات لعائلات وأفراد في مقابل هجرتهم من غزّة، وأبقت في القطاع، على نحو مقصود، مستوى حياة منخفضًا ومستوى بطالة عاليًا. وتلقي وثائق أرشيفية جرى الكشف عنها أخيرا الضوء على هذه السياسة التي تم التكتم عليها عشرات السنين بوصفها "سِرّ دولة"، وهي متضمّنة في الدراسة التي ترجمها عن العبرية صاحب هذه المقالة، وينشرها بالعربية قريبًا.