المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومنعطف الثورات
وقائع تاريخية ومفصلية كثيرة مرّت بذاكرتنا الحضارية وبنا، واقتربنا منها بوصفها منعطفا تاريخيا، قد يراها بعضهم مؤثرة، ولا يتفق في وصفها بالمنعطف التاريخي، إلا أن لحدث الثورات الذي توالت وقائعه طبيعة خاصة؛ إذ حاز اتفاقا واسعا باعتباره منعطفا تاريخيا مركزيا في تاريخ الدول العربية، وانسحب في تأثيره على المستويين الإقليمي والعالمي، في ظل ما كان يروّج سابقا أن العالم العربي استثناء في عمليات التغيير، وأن هذه الشعوب لم ولن تثور أبدا. وهو ما أثبتت ثورات الربيع العربي، مع تلاحقها، خطأ هذا التعميم وزيفه وبعده عن الواقع؛ ناهيك عن خطايا تلك القراءات التاريخية لواقع العرب وشعوب الدول العربية، فهذا الحدث الذي امتد منذ الشهر الأخير من عام 2010، وبلغ ذروته خلال عامي 2011 و2012، وتجدّد في فترات ضمن احتجاجات واسعة، يثبت أن الشعوب مثلت رقما صعبا في عملية التغيير.
لا يزال حدث الثورات حيّا في وجدان الشعوب العربية، وبات حلم التغيير مهيمنا على شعوب المنطقة، ومحيطا بخيال أبنائها يتحسّب له كل من كان في السلطة في طول العالم العربي وعرضه، بالإضافة إلى تحسّب العواصم الغربية، بل كوّن المضادّون للثورات حلفا لمواجهتها، لاحتوائها ثم محاصرتها، وذلك كله يعظّم من قيمة هذا الحدث باعتباره منعطفا تاريخيا لم ينته في تأثيره ومآلاته، رغم مرور عقد، وأن أعداءه يتحسّبون له أكثر من أبنائه وداعميه، فالثورات قائمة كامنة، وربما تتجدّد في أي وقت، خصوصا بعد انكشاف النظم العربية الرسمية بعد معركة طوفان الأقصى، فالثورات بركانٌ خاملٌ ينتظر فورانه من جديد، من دون القدرة على تحديد موعد دقيق لها، فكل الحسابات والتوقعات والتحليلات تترقّب هذا الانفجار الموعود.
تجاوز نتاج المركز العربي عن الثورات ما يقارب ثلث إنتاج المركز الفكري في مختلف القضايا والمجالات
هناك مداخل مهمة عديدة يمكن من خلالها تناول هذا الحدث وأهميته وتأثيره ودلالاته التاريخية. ومن الأهمية بمكان التوقف عند مدخلٍ رئيس، يحتفي بالمنهجية العلمية في تناول حدث الثورة والتنظير له وتحليل مدخلاته المختلفة، سواء من المطالب والضغوط، أو الدعم والتأييد والمساندة. وفي هذا السياق، كان لافتا الدور الكبير والمهم الذي قدّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الذي صادف في نشأته في خريف 2010 سبقا مقترنا بالحدث الكبير الذي تعلق بالثورات العربية التي انطلقت من تونس، وسرت من بعد ذلك في محاكاة مذهلة في معظم بلدان العالم العربي؛ فقد شرع مع حدث الثورة جل اهتمام المركز تأليفا وترجمة، سواء لحدث الثورات والتحوّل الديمقراطي، أو في الوطن العربي أو التركيز على الحالات العربية بشكل منفرد، ومن ثم كانت البداية من ثورة تونس، والاهتمام بها وبقياداتها وقواها السياسية ومكوّنات نخبتها؛ مرورا بالثورة المصرية التي أخذت اهتماما واسعا من المركز لتأثيرها ومركزية مصر في النظام الإقليمي العربي، ومرورا بالثورة السورية؛ وصرخة غضب الثورة اللبنانية، وحراك الجزائر، والثورتين السودانية واليمنية، وقبل ذلك ثورتي سورية وليبيا.
لقد تجاوز نتاج المركز عن الثورات ما يقارب ثلث إنتاج المركز الفكري في مختلف القضايا والمجالات؛ حيث يمكن تصنيف هذا الإنتاج في الثورات والانتقال الديمقراطي، وحالات الثورات العربية (تونس، مصر، سورية، ليبيا، اليمن، لبنان، السودان، الجزائر، ...)، وكذلك الدراسات النظرية عن الثورة والقابلية للثورة، والسير الذاتية، وقضايا الثورات العربية ومجالاتها وعلاقاتها ومآلاتها، ومن ثم قرأنا عناوين مثل شبكات الغضب والأمل، والوعي السياسي، والمجال الافتراضي، الخطاب الاحتجاجي والجيش والسياسة، والجندي والدولة، والتداعيات الجيوستراتيجية، وعسر التحوّل الديمقراطي ومآلاته، وكذا أطوار التاريخ الانتقالي، وفجر العرب، وإرهاصات التنمية والثورات المجهضة في العالم العربي، والربيع العربي الفائت، وغيرها من عشرات العناوين التي توثق الحدث وتحلله، سواء على مستوى رؤية العالم وموقع العالم العربي من الثورات، أو الأطر التحليلية والمفاهيمية وقواعد التفسير والتحليل، أو الإشكالات والقضايا الأجدر بالتناول، فلم يكن تناول المركز قاصرا على القضايا المباشرة للثورات، وإنما كان هناك اهتمام كبير بتأثير الثورات على كل مجالات العالم العربي وقضاياه.
نؤكّد على أهمية ما قدّمه المركز، خصوصاً في استيعابه هذا الحدث ضمن تناول مستويات تحليلية وتفسيرية متعدّدة في الثورات العربية
ومن هذه القضايا قضية "الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي"، وكانت ضمن اهتمامات المركز في مؤتمره السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي عقده المركز في مراكش (19-21 مارس/ آذار 2015). وقد صدر الكتاب متضمّنا أوراق المؤتمر، ومن بينها الأوراق البحثية في محور المثقف والمتعلم والديمقراطية الذي ضم ثلاثة بحوث تناولت المثقف في الجامعة: لماذا يجب أن نقرأ الماضي؟ والعلاقة بين التعليم الجامعي والديمقراطية في العالم العربي، ومحور "في الحرية الأكاديمية وضوابطها"، الذي ضم "البحث العلمي وضوابط الحريات الأكاديمية في الجامعات المغربية" و"الحرية الأكاديمية وتحولات الحراك في المنطقة" و"الحرية الأكاديمية واستقلالية الجامعات في السودان". ومن هنا، نؤكّد على أهمية ما قدّمه المركز، خصوصا في استيعابه هذا الحدث ضمن تناول مستويات تحليلية وتفسيرية متعدّدة في الثورات العربية ضمن خريطة موضوعات وقضايا ومجالات تتعلق بالثورات العربية، رصدا وتحليلا وتفسيرا، يمثل نموذجا لما يجب أن تكون عليه مراكز البحث والتفكير ودورها الحقيقي في نهوض الأمم والحضارات. وليس مثل هذا القول من قبيل المبالغة أو التضخيم من دور المركز، فقولنا هنا عام، ويخصّ أي مركز بحثي قام ويقوم بدور في قضايا أوطاننا العربية وأمتنا الإسلامية، خصوصا إذا ما كانت القضية محورية ومؤثرة على حاضر شعوبنا ودولنا وأمتنا العربية الإسلامية ومستقبلها.
الاهتمام بالثورات العربية ومساراتها ومآلاتها أمر جدير بأن تشيد له مراكز التفكير والهيئات البحثية والعلمية لتتناول هذه الظاهرة ومآلاتها على شعوب المنطقة وقوتها، وتُعظّم من ذلك وبقوة معركة طوفان الأقصى التي فضحت المنظومة الدولية وانكشاف النظم الرسمية العربية ومؤسساتها الرسمية الجامعة، وأكّدت أن على أي أمةٍ أو حضارة تريد أن تحفظ بقاءها واستمرارها أن تملك إرادتها وعناصر قوتها ومصادر عزّها وكرامتها، وقد أثبتت الثورات أنها مناط قوة هذه الأمة ونهضتها، ولعل مقارنة عابرة بين موقف النظام المصري من غزّة والقضية الفلسطينية بين عامي 2012 عندما كانت الثورة تحكم، رغم كل الدسائس والمؤامرات، و2023 الذي تنتهك فيه الحدود المصرية، ولا تستطيع مصر أن تمارس سيادتها إلا بعد حصولها على الإذن الإسرائيلي.
نعتبر هذا العمل الدائب والمتلاحق والمتراكم نموذجا، فقدّم المركز، بمؤسّساته، نموذجا عن "بنية الثورات العربية"
لم يكن اهتمام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والذي تشرّفت بالعمل فيه، بتلك الأجندة البحثية المتعلقة بالثورات، عفو الخاطر، بل باعتبارها استراتيجية بشأن هذا الحدث الكاشف الفارق، وبكل الملفّات التي تصوّرها المركز في مساحات ومجالات وعلاقات بالثورات العربية ومعظم قضاياها. وشكّل هذا الاهتمام طفرة علمية ومعرفية وبحثية؛ بحيث قدّمت نموذجا معرفيا صاعدا يمتلك عناصر الرؤية والقصدية، ولم تجارِه في ذلك مراكز بحثية أخرى؛ حتى أنه من خلال رؤية العالم المقترنة بمعرفة متكاملة بشأن النظام الدولي وتفاعلاته، وتوليد جهاز مفاهيمي ارتبط بعالم أحداث الثورات؛ واقترن ذلك كله بأطر تحليلية ومستويات تحليل ومقاربات نظرية لدراسة هذا الحدث بكل تجلياته وتعقيداته. ولم يقف عند هذا الحد، بل قدّم قواعد تفسير تتسم بالشمول لعوامل قيام الثورات، وكذا العوامل التي أدّت إلى انحسارها والالتفاف عليها، ضمن مقولة منهاجية تتعلق بالثورة والقابلية لها؛ ودراسة واسعة لفترات الانتقال وزواياه المتعدّدة من الانتقال الثوري والسياسي والدستوري والديمقراطي والعسكري والاجتماعي. وفي النهاية، شكّل ذلك كله أجندة وبرنامج عمل في مجال الثورات؛ إننا بحق نعتبر هذا العمل الدائب والمتلاحق والمتراكم نموذجا بكل ما تحمله كلمة "نموذج" كما قصدها توماس كون، في كتابه المهم "بنية الثورات العلمية"، فقدّم المركز، بمؤسّساته، نموذجا عن "بنية الثورات العربية"؛ وهو ما دفعنا إلى أن نستدلّ من هذا النشاط العلمي المتراكم أن الثورات مثلت بحقّ منعطفا تاريخيا.