تلك المسافة بين الحركتين الطلابيتين المصرية والعالمية
أشاد كثيرون بما قام به آلاف من الطلاب في جامعات أميركية وغربية من اعتصامات واحتجاجات تضامناً مع القضية الفلسطينية، ورفض جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، كما لقي ذلك إعجاب الرأي العام العربي والإسلامي، خصوصاً في ظل الحصار الرسمي على ردود الأفعال الشعبية لإعلان موقفها بالمثل ضد ما يحدُث من جرائم في قطاع غزّة، وهي به أولى. وفي السياق، تساءل مراقبون عن غياب ردود الأفعال في الجامعات المصرية وضعفها.
الجانب الأساسي الذي يتجاهله المراقبون في المقارنة بين التجربتين الغربية والمصرية (والعربية عموماً) أسلوب التعليم، ومدى احترام حريات المجتمع الطلابي تجاه القضايا السياسية والاقتصادية في كل منهما. هناك عقلية علمية تعتمد على المناقشة، وتكوين وجهة نظر خاصة من الطلاب تعتمد على الحوار المتبادل، ولا تكتفي بالاعتماد على كتاب موحّد يتداوله الطلاب، بالإضافة إلى تكوين اتحادات مستقلة تستطيع مخاطبة الإدارة الجامعية على قدم المساواة والضغط عليها في مختلف الشؤون العامة والطلابية. بعكس التجربة المصرية والعربية التي تعتمد على منهج السلطة الأبوية ومفاهيم الحفظ والتلقين، وتعمل على إعادة صياغة المناهج بما يلائم وجهة النظر الرسمية، وهذه أقرب إلى نموذج لجان الحقيقة والدولة القمعية في رواية جورج أورويل "1984"، حيث تعمل السلطة على إعادة صياغة كل المعلومات والحقائق بما يلائم ما تراه، حتى لو على عكس الواقع.
طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات وحتى ثورة يناير، كانت التجمّعات الطلابية بارزة في جامعات القاهرة وعين شمس والمنصورة وطنطا وجامعة الأزهر والجامعة الأميركية كذلك
وطوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات وحتى ثورة يناير، كانت التجمّعات الطلابية بارزة في جامعات القاهرة وعين شمس والمنصورة وطنطا وجامعة الأزهر والجامعة الأميركية كذلك، وهي التي تناولها شريط سينمائي شهير للفنان محمد هنيدي، وكانت حاضرة في مواقف كثيرة خاصة بالقضية الفلسطينية. وما يحدُث في الفترة الأخيرة في حقيقته يعكس تغييباً قسرياً لطلاب الجامعات عن إبداء آرائهم، ليس فقط مما يحدُث في فلسطين، بل في كل القضايا المهمّة في الشأن الداخلي لأسباب عدة، يتعلّق بعضها بالنظام نفسه وموقفه الرافض ضد كل المبادرات الجماعية المستقلة في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ ترفض السلطة المصرية أي عمل طلابي سياسي أو حزبي مستقلّ عنها. ويظهر ذلك في حجم القيود التي تفرضها أجهزة الدولة على العمل الطلابي في المجال السياسي، ولطالما كانت الجامعات منبراً للتظاهر الدائم وإقامة المعارض والمؤتمرات السياسية داخل أسوارها وخارجها. وسبق أن عبرت الاتجاهات السياسية المختلفة يساراً ويميناً عن نفسها في أسر وأندية فكرية من اليسار إلى اليمين، معارضة للسلطة في عهدي أنور السادات وحسني مبارك.
وعندما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التظاهر لرفض تهجير الفلسطينيين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وسمحت الدولة للأحزاب الداعمة للنظام بتسيير مظاهرات في مختلف المحافظات شهدت تجاوباً طلابياً واضحاً. لكنها لم تتسامح مع فعاليات احتجاجية أخرى للهدف نفسه، دخل بعضها ميدان التحرير وسط القاهرة، لمجرّد أنها نظمّت بشكلٍ مستقل، ولأنها رفضت مبدأ التفويض الرئاسي الذي دعت إليه المظاهرات الرسمية، وقبضت على عشرات الشباب من الذين قادوا هذه المظاهرات ولا يزالون محبوسين.
كما عملت الدولة منذ 2013 على التراجع عن كل المكتسبات التي حققتها حركة استقلال الجامعات عقب ثورة يناير، سواء في إلغاء الحرس الجامعي وانتخاب عمداء الكليات ورؤساء الجامعات لصالح مبدأ التعيين من رئيس الجمهورية، واختيار الأشخاص الذين يمكن توجيههم من الأجهزة الأمنية، لضمان البقاء في مناصبهم.
غياب كامل للانتخابات المستقلة في الجامعات، حيث تسيطر أجهزة الدولة الأمنية والإدارية على مجريات تلك الانتخابات
وانتهجت الدولة سياسات تقييد حرّية الرأي والتعبير وكل الحريات الأخرى، مثل حرّية التنظيم والتجمع السلمي لمختلف الفئات عمّالاً وطلاباً ومواطنين، من خلال الحبس الاحتياطي المطوّل والتدوير، والتي تصل إلى سنوات في السجون.
على مستوى الجامعات، هناك غياب كامل للانتخابات المستقلة، حيث تسيطر أجهزة الدولة الأمنية والإدارية على مجريات تلك الانتخابات من خلال اللائحة التي جرى فرضها بموجب قرار وزير التعليم العالي 352 لسنة 2019، بديلاً للائحة 2013. وحذفت منها كل ما له علاقة بالشأن السياسي، ولم تجر الانتخابات الأخيرة في موعدها في بداية العام الطلابي 2023 ـ 2024. وتختار الإدارة الجامعية لجان الاشراف على تلك الانتخابات من أعضاء هيئات التدريس والطلاب، ومن صلاحياتها إعلان قوائم الترشيح النهائية، والإشراف على التصويت والفرز واستبعاد المرشّحين الذين يخالفون الآداب العامة والقيم والتقاليد الجامعية في الدعاية الانتخابية، وهو ما يفتح الباب لاستبعاد المعارضين.
عملت أجهزة الدولة المصرية على تقييد الحرّيات الأكاديمية داخل الجامعات، بالإضافة إلى اعتقالها عشرات الباحثين والأكاديميين بتهم التحريض على الإرهاب
ولا تسمح أجهزة الدولة إلا بالتشكيلات التي صنعتها بهدف إظهار التأييد والدعم الطلابي لها، وأهمها ما تسمّى أسرة "طلاب من أجل مصر"، والتي أسّست عام 2017 وتوسّع وجودها في الجامعات، بما فيها الأهلية المنشأة حديثاً، وتحظى هذه الأسرة بدعم رسمي، وهو ما يظهر في حضور رؤساء الجامعات جميع الأنشطة الخاصة بها، على غرار أسرة حورس التي رعاها جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك. وتحظى هذه الحركة بالمساندة الكاملة في الانتخابات الطلابية التي لا يسمح بخوضها إلا للطلاب المرضي عنهم سياسياً وأمنياً، حيث تستبعد اللائحة كل من قد سبق الحكم عليه بعقوبة جنائية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلّة بالشرف، وألا يكون منتمياً إلى أي تنظيم أو كيان أو جماعة إرهابية مؤسّسة على خلاف القانون. وترفع هذه الأسرة ضمن لافتاتها "معاً لبناء الجمهورية الجديدة"، وتشيع خوض المعارك الوهمية تجاه ما يسمّى حروب الجيلين الرابع والخامس، ومواجهة الشائعات، في إشارة إلى أي آراء تخالف وجهة نظر النظام الرسمي. بل وزعت هذه الأسرة عبوات زيت وسكر على الأسر الأكثر احتياجاً، في مسلك شبيه بما يفعله حزب مستقبل وطن في أثناء الانتخابات البرلمانية والرئاسية لشراء ضمائر الفقراء والمحتاجين.
عملت أجهزة الدولة على تقييد الحرّيات الأكاديمية داخل الجامعات، بالإضافة إلى اعتقالها عشرات الباحثين والأكاديميين بتهم التحريض على الإرهاب والانتماء إلى منظمّات إرهابية، ومنهم أساتذة جامعات، وجديد هذه الاعتقالات ما جرى مع مؤسّسي حركة طلاب من أجل فلسطين التي أصدرت عدّة بيانات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، وتم القبض على مؤسّسيها، ولا يزالون تحت الحبس الاحتياطي. وبالرغم من كل هذه القيود، لم تنته هذه الحركة، بل تحاول إعادة تأسيس نفسها من خلال الوجود داخل الأحزاب وخارجها، وهو ما ظهر في الحراك الطلابي أخيراً.