المصالحة المصرية السعودية التركية في الطريق
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
أجمعت الصحافة العالمية على أن ما حصل في القمة الخليجية هو انتصار لقطر. حتى المعلق الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، وصفها كذلك، مع أن الإمارات ظلت، حتى اللحظات الأخيرة، تحاول بكل ما أوتيت تعطيل المصالحة، وافتعلت قصة الخروق الجوية والبحرية. وكان لافتاً غياب ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، عن القمة، مع أنه حضر توقيع اتفاق الرياض في 2014، كما أنه التزم الصمت، ولم يعلق في حسابه النشط على التويتر.
نعم، يحقّ لقطر، بعد كل الظلم والعدوان الذي تعرّضت له، أن تزهو بالانتصار. كان الصمود حتى اللحظة الأخيرة، رفع الحصار ثم مشاركة الأمير في القمة. ما تسرّب عن اتفاق العلا لخّصته صحيفة "نيويورك تايمز" بالقول "قطر قدّمت القليل، إسقاط الدعاوى القضائية التي رفعت على دول الحصار". رفع الحصار بسهولة، لأنه لا توجد أسباب حقيقية. كل القصة انتهت بخبر على وكالة الأنباء القطرية برفع الحصار ومشاركة الأمير، تماماً كما بدأت الأزمة بأكاذيب على وكالة الأنباء القطرية بعد قرصنتها. ما حصل لم يكن سهلاً، وبحسب مقولة نيلسون مانديلا الشهيرة "نغفر ولا ننسى".
ما كان الحصار ليكون لولا وجود ترامب في البيت الأبيض، وما كان لينتهي لو بقي ترامب، فكل محاولاته السابقة فشلت. وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض لم يسفر عن المصالحة الخليجية فقط، بل ستتبعها مصالحاتٌ سعوديةٌ ومصريةٌ مع تركيا. فالمفارقة أن ترامب كان حليفاً لأردوغان، تماماً كما كان لمحمد بن سلمان وابن زايد وبوتين.. اليوم يواجه الرئيس التركي، وإنْ بدرجة أقل من عبد الفتاح السيسي ومحمد بن سلمان وابن زايد، مشكلات مع البيت الأبيض، ولا بد من ترتيب العلاقات الإقليمية قبل حل تلك المشكلات.
أقبل أردوغان على الملك سلمان، وقلّده أرفع وسام تركي. كان الصدود من السعودية. وهو وقف مع قطر حليفاً، وقبل ذلك حاول الإصلاح وفشل. المشكلة الحقيقية هي قضية جمال خاشقجي، وحاولت السعودية إثرها إصلاح العلاقات مع تركيا. وبشكل علني، مد ولي العهد السعودي يد المصالحة لأردوغان في خطابه الشهير الذي قال فيه إن أحداً لا يستطيع إحداث "شرخ" بين تركيا والسعودية بوجود الملك سلمان ومحمد بن سلمان ورجب طيب أردوغان. لكن ذلك الشرخ حدث، وتجلى في حملة مقاطعة البضائع التركية، والتحالف مع كل أعداء تركيا من قوات سورية الديمقراطية (قسد) إلى اليونان وخليفة حفتر وغيرهم.
هل يمكن أن "ينوّر" أردوغان المملكة بعد ذلك كله؟ نعم، فالاتصالات لم تتوقف بين البلدين، حتى في عزّ أزمة خاشقجي. وما كان الأتراك ليتقدّموا في العلاقات مع السعودية من دون إتمام المصالحة مع قطر. ولم يعد لتركيا ما تضيفه في قضية خاشقجي، والملف صار أميركياً، والأحكام التركية لم تمس ولي العهد السعودي. مشكلة السعودية اليوم هي مع الديموقراطيين في الولايات المتحدة، الذين لديهم ملفات خاشقجي وسعد الجبري والتنصت واختراق واتساب وتويتر وجرائم الحرب في اليمن، وفوقها ملف معتقلات ومعتقلي الرأي. وبعيداً عن الضغط الأميركي، معالجة تلك الملفات مصلحة وطنية سعودية.
الصورة في مصر أوضح، فالشركات التركية هي المشغل الأساسي لصناعات النسيج والقطن في مصر، وحجم التبادل التجاري بين البلدين لم يتضرّر، وبينهما مصالح كبرى في البحر المتوسط. المشكلة هي استضافة تركيا للمعارضة المصرية، وهؤلاء صاروا أتراكاً، وتركيا مستعدّة للمبادرة في حوار بين المعارضة والسيسي الذي يواجه ضغطاً أميركياً وأوروبياً حقيقياً في ملف حقوق الإنسان.
أكثر من ذلك، ستحاول تركيا تهدئة التوتير مع دولة الاحتلال التي حاصرتها باتفاقية أمنية عسكرية مع اليونان، بلغت كلفتها أكثر من مليار، والإسرائيليون حريصون على إنهاء التوتر مع تركيا، وهم يدركون تماماً قيمتها الاستراتيجية. ويربط الأتراك إنهاء التوتر بفتح ميناء غزة وإعادة إعمارها. وهذا ثمن من الممكن أن تدفعه دولة الاحتلال.
هذا هو المشهد في منطقتنا عشية مغادرة ترامب البيت الأبيض. أكثر ما يعني الإدارة المرتقبة في المنطقة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهذا محتمل بدرجة كبيرة. أما إحياء عملية السلام فلا يبدو أن فيها أملاً بغياب شريك إسرائيلي. يتعامل الأميركان مع ثلاث قوى في المنطقة، إسرائيل وإيران وتركيا. أما العالم العربي فلم يعد قوة معتبرة بنظر العالم.
بقي القول، إن كاتب السطور، وهو يصف المشهد، لم يغيّر ثوابته بالوقوف مع معتقلي الرأي وضحايا الاستبداد، ورفض التطبيع.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.