المفتي حسّون .. ونقاش هوية سورية
لم يُنظر إلى أحمد حسّون شيخاً حقيقياً في حلب، مدينته الأصلية، أو في دمشق بعد أن جاءها عضواً لمجلس الشعب مرتين، أو حين صار مفتياً للجمهورية عام 2005؛ وكان دائماً مقرّباً من أجهزة الاستخبارات السورية. هناك أيضاً، من يشكك بشهاداته الجامعية، وهو خرّيج الأدب العربي من جامعة الأزهر وليس خرّيج كلية الشريعة، أي ليس متبحّراً بعلوم الدين، وبالتالي لا يحق له أن يصبح مفتياً في حلب عام 2002 أو مفتياً عاماً للجمهورية.
قربه الشديد من الأجهزة الأمنية باعد بينه وبين المشيخة السنيّة في عموم سورية، وليس في حلب فقط. أيضاً تبوؤه منصباً كبيراً، الإفتاء، زاد من العدائية له ضمن تلك المشيخة التي كانت بعض مرجعياتها مرجعية وازنةً في العالمين، العربي والإسلامي، كمحمد سعيد رمضان البوطي مثلاً. مشكلة أحمد حسّون أنّه بلا شعبية في حلب وبلا مشيخة كذلك. إذاً الرجل عارٍ من لباس الدين، رغم لفّته الثقيلة وحديثه المنمّق، وهو متحدّث بارع. كان العداء بداية في حلب، حين صار مفتياً مع مدير أوقافها، وحين صار مفتياً ازداد حدّة مع وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد. يميل ذلك العداء إلى كفة الستار، فهو المسؤول الأول عن كلّ شؤون المشيخة السنيّة في سورية، وبالتالي لا مجال أبداً للحديث عن توازنٍ ما بين الرجلين. وبعيداً عن العداء بين حسّون والسيد، سبباً لتفسير إلغاء منصب المفتي في سورية، يريد النظام مأسسة مؤسسة الإفتاء لغايات جديدة. وبالتالي، لا بد من التضحية بالمنصب قبل الرجل، لكنّ ثرثرات الرجل، الساعي أبداً إلى السلطة، والراغب في إطاحة السيد هذا، كانت وبالاً عليه، فوُضِعَ بعدما هُمش منذ 2018 في أسفل السافلين، كما توعد هو ذاته من هُجر من سورية. عُزِلَ بفعل المرسوم التشريعي الذي أحيل فيه منصب المفتي على المجلس العلمي الفقهي، وبالتالي عليه أن يصمت ويحافظ على ثروته المالية، وما نهبه منذ تزاوج من الأجهزة الأمنية زواجاً كاثوليكياً غير قابل للطلاق.
إبعاد الدين عن الدولة احترام جذري له، ودفع الناس ليقيموا صلة مباشرة بالله أو بأنبيائه أو بالنصوص الدينية
تخوّف كُثُرٌ من هذا المرسوم، ومن المجلس العلمي الفقهي إياه، ورأى كتاب إسلاميون أنّه يطيح هوية سورية الإسلامية السنية، وهو استكمال للتغير الديموغرافي الذي حدث على الأرض، أي أنّ المرسوم هو تتويجٌ وإمعانٌ في تغيير الهوية هذه. يضم المجلس شخصيات من كلّ المذاهب والأديان، لكنّ خطورته تكمن في المسيطر على السياسات العامة للدولة؛ فالمجلس تابع لوزارة الأوقاف، ويهمّش الدور الأساسي للمذهب السني، ويساويه بغيره، وبالتالي هناك مشكلة بالفعل هنا، لكن هل هذه المشكلة تحلّ عبر التمسّك بمنصب المفتي أو هيمنة المذهب السني، أم المشكلة تتمثل في إبعاد تلك المؤسسات عن الاستخدام عبر الدولة "منصب المفتي، أو المجلس الجديد هذا، أو سواهما" ورفض تسييس الأديان والطوائف في إطار تعزيز السلطة عبر الأديان والطوائف. ألم تكن وظيفة المفتي دائماً وأبداً الإفتاء وفقاً لآراء السلطة السياسية ومواقفها وحاجاتها، أو بما لا يتعارض معها، أو وفقاً لتعزيز الإسلام النصوصي. ماذا ربح السُّنة من منصب المفتي؟ ماذا سيخسرون أيضاً. يفترض بالعقلاء النظر إلى هذه المسألة بعمقٍ أكبر، وسواء أكانوا مؤيدين للثورة الشعبية 2011 أم سواهم، حيث الأساس في الدولة الحديثة رفض تسييس الدين، سلباً أو إيجاباً. إبعاد الدين عن الدولة هو احترام جذري له، ودفع الناس ليقيموا صلة مباشرة بالله أو بأنبيائه أو بالنصوص الدينية، بل حتى مع المذاهب الدينية، والعكس صحيح، حيث كلّ علاقة بين الدين والدولة ستكون لمصلحة الدولة، وكلما كانت الأخيرة أقل ديمقراطية ومستبدّة سيكون الدين ضعيفاً ورجالاته ينطقون "بالنفاق والكذب" وبالتالي منطقياً يُفترض عدم الدفاع عن منصب المفتي من المعارضين من الإسلاميين.
من يفضّلون المفتي والمجلس وكائناً من كانوا ينطلقون من تسييس كبيرٍ أو قليل للدين وللدولة القائمة أو المأمولة
هل ستتغير هوية سورية مع هذا الإلغاء، وهل هوية سورية إسلامية سنيّة فقط، وهل عبر هذا المجلس تتهمش السُّنة وتياراتها؟ التغيير الديموغرافي الذي حدث ويحدث، وكذلك التشيّع مثلاً، لن يغير من موقع الطائفة السنيّة في سورية كثيراً، لكنّه يضيف هويات جديدة. لا يمكن المجلس العلمي الفقهي أن يتلاعب بالأكثريات والأقليات الدينية في سورية، فهو، بالأصل، وكما كان منصب المفتي سياسياً، سيكون المجلس من القماشة نفسها، وخاضعاً للسلطة السياسية.
القراءة الأدق لموضوع منصب المفتي وسواه من القضايا تنطلق من هل نريد دولة حديثة أم دولة دينية. من يفضّلون المفتي والمجلس وكائناً من كانوا ينطلقون من تسييس كبيرٍ أو قليل للدين وللدولة القائمة أو المأمولة، ولنفترض هنا أنّ النظام سقط غداً، كيف سيتعامل أصحابنا الإسلاميون مع بقية الطوائف والأديان؟ ألا يحق لأيِّ عاقلٍ أن يفكر بهذا النحو، فكيف بالخائف والمذعور. ضمن ذلك، لا يفيد كثيراً النقاش في تغيير الهوية الدينية للأكثرية السورية، السنيّة، ولا في هيمنة المرجعيات الشيعية على المجلس العلمي الفقهي هذا؛ فهذا وإن تحقق لن يغير كثيراً من الهوية الدينية للسوريين، أكثرية أو أقليات.
للنقاش الذي أثاره المرسوم التشريعي فائدة واحدة، أنّه يجدّد "الفضائح" السورية إزاء الآخر والدولة والمستقبل وعلاقة السوريين بعضهم ببعض. وبعيداً عن أغراض النظام في ضبط كلّ المؤسسات الدينية تحت معطفه، وضمن أهدافٍ قد تكون فعلاً لمصلحة سياساتٍ تتعلق بتسهيل التشيّع، لكنّ المسألة لدى النظام تتعلق بضرب المشيخات كلّها، وتحديداً السنيّة، وجعلها تابعة له تبعية كاملة، وهو ما بدأ به منذ عام 2000، وهذا ما يتطلب إنهاءً للصراعات العنيفة بين السيد وحسّون أو أيّ شخصيات دينية أخرى.
النقاش في تغيير الهوية انطلاقاً من ضرورة أن تظل كما هي ضعيف، ولا يؤسّس لإصلاحٍ دينيّ جادٍ
لا يستطيع النظام عبر مجلسه تغيير الهوية الدينية لسورية، فهذه أصبحت منذ زمن بعيد إحدى هويات السوريين، ومهما كانت مذاهبهم، فهناك تغيير كبير في الهويات، وهناك هويات جديدة، وبالأصل ليس من هوية جامدة وساكنة، وهي تتعرّض للتغيير والتبديل المستمر. المقصد هنا أن النقاش في تغيير الهوية انطلاقاً من ضرورة أن تظل كما هي نقاش ضعيف، ولا يؤسّس لإصلاحٍ دينيّ جادٍ، ولا يقارب بين الدين والثورة الشعبية التي يجب أن تنطلق من جعل الدين أمراً شخصياً أو أمراً أخلاقياً وخاصاً بالمؤمنين به، وبعيداً عن تسييس شؤون الحكم أو أهداف الثورة الشعبية، وحتى الأحوال الشخصية، يفترض أن تصبح اختيارية، مع غلبة للزواج المدني، بقانون واحد لكلّ السوريين.
لا يجد أحمد حسّون نفسه بعد إلغاء المنصب حتى شيخاً عادياً، وهو لا يستطيع أن يخطُب مجدّداً في جامعٍ صغيرٍ، وليس له مكانة بين أهله في حلب أو ضمن المذهب السني، حيث كان شيخاً مخابراتياً بكلّ معنى الكلمة، منذ تمشيخ. هل ينتحر؟ لا. هل يصمت؟ لا، فالرجل كثير الثرثرة والتأويل الفاسد. هل يترك له النظام فسحة للإمامة في أحد الجوامع، هذا أكيد. الآن، أنصح، أو أفتي للشيخ حسّون بأن يتخلص من كلّ طموحاته القديمة في التوزير، وسواه، وأن يلتفت إلى إدارة شؤونه المالية؛ فهذا أفضل ما يفعله، منتظراً كما كلّ السوريين أن تتغير الأحوال، وحينها ربما يُكفّر فعلاً عما اقترفت يداه منذ صار شيخاً في شبابه، أسوة بأبيه، وليس لدوره المشين بحق الإفتاء والمشيخة بعد 2011.