الملالي الإيرانيون يعظون "المجاهدين" الأفغان بحسن معاملة النساء
قبل أيام: المسؤول الإيراني الرفيع ناصر كنعاني يعبّر عن "تمنيات" قيادته بأن "تتّخذ السلطات المعنية في أفغانستان إجراءات لإزالة العوائق التي تحول دون عودة الفتيات إلى المدارس والجامعات"، ناسباً حسنات هذا الإجراء إلى "النمو والازدهار"، فتردّ عليه وزارة الخارجية الأفغانية على موقع تويتر، ومن دون إبطاء: "الأفضل لهم إقناع النساء المحتجّات في بلادهم، وأن لا يحاولوا، باسم التعاطف، لفت النظر عن مشكلاتهم الداخلية إلى بلادنا".
ولا نعرف إن كانت إجراءات السلطة الأفغانية "المجاهدة" السابقة ضد النساء قد أثارت "تدخّلاً" إيرانياً في شؤونها، كما فعلت الآن، أي في وقتٍ تشهد إيران نفسها انتفاضة نسائية شعبية ضد ملاليها. ولكن المؤكد أن تدخلهم أخيراً ينطوي على مفارقة ساخرة: تقمع إيران وتقتل نساءها ورجالها، تسجنهم وتعذّبهم وتعتدي على حرماتهم... وفي الآن عينه، تنْصح بالحُسنى حكاماً يقترفون جرائم مشابهة، من عياراتٍ مختلفة، ومن المنطلق الديني نفسه، من دون أن تشعر بأي حرَج.
وهي من هذه الزاوية محقّة. لماذا؟ لأن حكم الملالي الإيرانيين بعد "الثورة الإسلامية" لم يستطع انتزاع حق تعليم النساء الذي أرساه حكم الشاه السابق، قبل طرده من البلاد. أعاد فرض الحجاب بالقوة، اقتنص حقوقاً شخصية كانت الإيرانيات قد اكتسبنها في ظل الحكم الشاهنْشاهي، قلّص من مشاركتهن في شؤون العامة... إلخ. فيما "المجاهدون"، خرّيجو مدرسة "طالبان"، استعادوا لتوّهم الحكم من يد الأميركيين، بعد عشرين سنة على احتلال هؤلاء بلادهم. حاولوا في البدء "طمأنة المجتمع الدولي" بأنهم لن يلغوا حقوقاً نالتها الأفغانيات في ظل هذا الاحتلال. ولكنهم كانوا يخدعون من يوَدّ أن يُخدَع، فما أن تمكّنوا، حتى نسَفوا هذه الحقوق، شيئاً فشيئاً. ومنذ شهر سبتمبر/ أيلول قبل الماضي، تاريخ الانسحاب الأميركي، كانت هذه الحقوق مهدورة: ممنوع عليهن العمل في الوظائف الحكومية، وارتياد صالات الرياضة والحمامات العامة، والتنزّه في الحدائق، التي تفصل بالأصل بين الرجال والنساء... ممنوع عليهن السفر والعمل في الجمعيات الأهلية، ممنوع السفور، وبدل الحجاب "العادي" "يفضَّل" ارتداء البرقع الأزرق، وذلك بمرسوم وقّعه الرئيس الأفغاني هبة الله أخوند زاده، حدّدَ فيه مساحة التغطية كلها، "باستثناء العيون". وتتكفّل "وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بنشر كل التعليمات اللازمة المطابقة لهذا النوع من الحجاب الأفغاني، بمراقبة تنفيذها، وبتحديد درجات المعاقبة على الإخلال بها. ثم الإجراء أخيراً، الذي استفزّ الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، كان منع النساء من التعليم الجامعي، بعد الابتدائي.
والآن، مقارنة بسيطة بين حال الأفغانيات وحال الإيرانيات، تبيِّن أن الظلم اللاحق بالأُوَل لا يُقاس بذلك الواقع على الثانيات. بين نساء يطلقن التظاهرات، وانتفاضة شاملة كانت شرارتها رفض الحجاب القسري، وبين ردود فعل أفغانية، لنساءٍ لا يتجاوز عددهن أصابع اليدين، يتعرّضن للضرب والاعتقال، وهن يسرن في ما يشبه التظاهرة اليتيمة، صوتُهن متعبٌ مبحوحٌ من قلة الشركاء... وكانت آخر احتجاجاتهن الهزيلة، تلك المتعلقة بمنع التعليم الجامعي، وبينهن مديرات لكليات أستاذات من الطراز الرفيع.
لا يطلق على الأفغان الخارجين من بلدهم صفة "مهاجرين"، إنما "لاجئون"، متواضعو الكفاءة، هاربون من غلاظة العيش وقساوته الشديدة
بين الأفغانيات، إذن، والإيرانيات، اللواتي أشعلن إيران كلها، بطبقاتها وأجيالها ومناطقها وإثنياتها، وحجتهن الحجاب الإلزامي، وما يرمز إليه من ظلم وانكسار وظلامية. بحيث بدت الإيرانيات رمزاً للنهوض بهذه الحقوق، فكانت التظاهرات القليلة الأفغانية ترفع الشعار نفسه الذي قادَ الإيرانيات إلى التمرّد، أي "المرأة، الحياة، الحرية"، والنموذج الإيراني حاضر على لسان إحدى الجامعيات المتظاهرات: "في إيران، الرجال يقفون إلى جانب أخواتهم، يدعمون حقوق النساء. وإذا اتحدَ معنا الرجال من أجل حقنا بالتعليم، كما فعل الإيرانيون، سوف ننجح بالتأكيد".
حسناً. حركة نسائية أفغانية ضعيفة، وأخرى إيرانية قوية. والعوامل "الداخلية"، المذكورة أعلاه، لا تفسّر كلها المفارقة الثانية: أن الأفغانيات، الأكثر تعرّضاً للظلم من الإيرانيات، لا يحظَين، لا داخلياً ولا خارجياً، إلا بمواكبة هزيلة وتعاطف من شفاه. فيما الإيرانيات الثائرات، الأكثر حظاً منهن، أصبحت لهن وجاهة وطنية بأن تحولنَ إلى قيادة انتفاضة شعبية عارمة... وفوقها وجاهة عالمية، بمعاملتهن بطلات صاحبات قضية "عالمية، إنسانية". ورؤساء جمهوريات غربيون، وإعلام غربي، وجماعات المنظمات الأهلية النسائية والحقوق الإنسانية .. كلهم صبّوا اهتمامهم، وإعجابهم، على الإيرانيات.
ما يطرح سؤالاً آخر: لماذا ثمة اهتمام غربي، إعلامي نخبوي رسمي، بقضية الإيرانيات، وإهمال الأفغانيات الأكثر منهن تعرّضاً لهدر هذه الحقوق؟ مع أن قضية الإيرانيات وحقوق الأفغانيات هي من صميم الثقافة الغربية النسوية الحداثية؟
لأن إيران قوة إقليمية تتمدّد في المشرق، ذاهبة نحو امتلاك قنبلة نووية. باراك أوباما، الرئيس الأميركي السابق، يصفها بـ"الدولة العقلانية"، رغم كل صريخها ضد إسرائيل. إنها دولة يُحسب لها حساب. وهذا كثير أمام "دولة" أفغانستان وحزبها "المجاهد الطالباني" مصدر الوحي والسند لتنظيم القاعدة. حزب "مجاهد" أخرج الأميركيين بسلاحيْه الخفيف والمتوسط، فهربوا منه وأهملوه، فيكون الخيار بذلك سهلاً، بين إيران صاحبة القنبلة النووية وأفغانستان صاحبة الكلاشنكوف.
تلعب الدياسبورا الإيرانية اليوم دوراً مهماً في دعم الانتفاضة ضد الملالي، إذ تتفاعل مع شباب الداخل الذي احترف فنون خرق الحظر الإلكتروني
النقطة الأخرى هي الدياسبورا الإيرانية؛ الذين تركوا إيران، وكانوا قلائل في عهد الشاه، وتزايدوا بعد "الثورة الإسلامية"، ليبلغوا ذروةً جديدةً في التسعينيات، بعد الأزمات الاقتصادية المتتالية. وفي ما عدا جزءاً من الفئة الأخيرة من المهاجرين، ذوي المهارات المهنية المتواضعة، فإن جلّ الدياسبورا الإيرانية هي من "الأدمغة"، أصحاب الكفاءات العالية والمتوسطة. وكانت وجهتهم كلها تصبّ في الغرب الأميركي والأوروبي. دياسبورا عريقة، متعلّمة، ناجحة في ميادينها، أصبح لها كتّاب وروائيون ومؤرّخون ممنوعون من النشر في بلادهم، وشبكات اتصال، ومجموعات ضغط، ووجوه معارِضة، مَلَكية، إمبراطورية، ويسارية على حد سواء. تلعب هذه الدياسبورا اليوم دوراً مهماً في دعم الانتفاضة ضد الملالي، من مختلف الأوجه... تتفاعل مع شباب الداخل الذي احترف فنون خرق الحظر الإلكتروني على الفضاء الإيراني الداخلي. فيما الدياسبورا الأفغانية موزَّعة بين إيران وباكستان أساساً، ومتناثرة في أنحاء المعمورة. وعموماً، لا يطلق على الأفغان الخارجين من بلدهم صفة "مهاجرين"، إنما "لاجئون"، متواضعو الكفاءة، هاربون من غلاظة العيش وقساوته الشديدة. ولا نحسب هنا الفارّين منهم مع الأميركيين، ونسبتهم ليست هي الطاغية.
في المحصلة، ما يميّز إيران عن أفغانستان علاقتها بالحداثة. في الوقت الذي كانت فيه أفغانستان غارقة في سُبات القرون الوسطى، في الربع الأول من القرن الماضي، كانت إيران تتعرّض لتغيرات حداثية، سريعة، في عهد الشاه، راكمت في أثنائها مكتسبات نسائية، في التعليم والحياة العامة والهندام... إلخ، بما جعلها قبْلة لأفغانستان، ما يشبه حال مصر من زمان، رائدة الحداثة العربية، بعلاقتها مع البلدان العربية، فالشاه قامَ على ميزان واحد: شدّد قبضته السلطوية برجال شرطته السرّية، "السافاك". ولكنه أنعم على بلاده بإنجازاتٍ حداثية، تخصّ النساء، من بين أمور أخرى. أما الخميني، فأبطلَ الكثير من هذه المنجزات، ولم يلغِ الشرطة السرّية، بل أحيا معها "شرطة الأخلاق" العلنية ضد النساء. ولكنه لم يستطع لا قتل روح الحرية لشعبه، ولا تدمير المنجزات الحداثية عن بكرة أبيها. تطوُّر مجتمعه لم يسمح له بأكثر مما سمح، فكانت الحداثة بتجلياتها النسائية ذات جذوةٍ حية، أنقذت الإيرانيات من مصير الأفغانيات.