الملك ماكرون ومن بعده الطوفان
انتقلت فرنسا، في أقلّ من شهر، من أغلبية وسطية كان يتمتع بها حزب النهضة، الرئاسي، قبل حلّ البرلمان، إلى أغلبية يمينية فاشية يمثلها حزب التجمّع الوطني أسفرت عنها الدورة الأولى للانتخابات المبكّرة، لتنتهي مخاطرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بفوز تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري من دون حصوله على أغلبية مطلقة تمكنه من تقلد رئاسة الحكومة بارتياح. ومن شأن عدم تحقيق أيٍّ من التكتلات الثلاثة الأغلبية المطلقة أن يعطل الحياة السياسية في فرنسا، ويُدخل البلاد في دوامة من الجدل والصراعات السياسية، خصوصاً أن ممارسة ماكرون السّلطة أبانت عن ميوله نحو ما سماه "الحكم العمودي"، ويتميز بتعزيز سلطات الرئيس الواسعة التي يخوّلها له دستور الجمهورية الخامسة؛ حُكم غاب عنه الحوار والتشاور والتنازلات التي لا يستقيم الحكم الديمقراطي من دونها.
لم يقدّم ماكرون شرحا لقراره المفاجئ بحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية مبكّرة الذي صدم الجميع من حوله، ليس فقط لأنه "يكره شرح أدوات صنع قراره"، كما سبق واعترف في مقابلة مع مجلة La Nouvelle Revue Française، بل لأنه يعامل الفرنسيين باعتبارهم رعايا، أكثر من كونهم مواطنين في دولة ديمقراطية. يشبّه كثيرون ماكرون بالملك، بين من يرى فيه لويس الخامس عشر ومن يشبهه بلويس السادس عشر ومن يعتبره نابليون بونابارت جديدا. سلطويته وما ألحقه حكمُه من ضرر بهياكل الدولة ووقوفه وراء وحشية عنف الشرطة في أثناء قمعها احتجاجات سلمية ومشروعة جعلت فرنسيين يشبهونه بلويس الخامس عشر الذي أضعفت فترة حكمه النظام الملكي وهياكل المجتمع حتى ثار عليه برلمان باريس في عام 1770، فواجه هذا الانقلاب بحملة قمع شرسة زرعت بذور الثورة الفرنسية. ويشبّه كثيرون أيضا ماكرون بلويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا، منتقدين مركزية السلطة التنفيذية في عهده وتآكل آليات الوساطة. ويذهب الدبلوماسي الفرنسي جان بيرليفاد إلى حد توقّع أن يلقى ماكرون المصير الرمزي الذي لقيه لويس السادس عشر، ويعني بذلك حتفه من الحياة السياسية، ربما حتى قبل انتهاء ولايته الثانية بعد ثلاث سنوات.
في غضون الأسابيع والشهور المقبلة، سيرى الفرنسيون الوجه الحقيقي للملك ماكرون الذي لا يؤمن حقّا بالديمقراطية والجمهورية
أما ماكرون فقد شبّه نفسه بنابليون مرّتين على الأقل، بحسب الكاتب فيليب بيسون الذي رافقه في حملته الرئاسية لعام 2017. في الذكرى المئوية الثانية لوفاة الإمبراطور، قال ماكرون: "بونابارت النسر والغول، جسّد الحرية والقمع في آن"، في محاولة ردّ الاعتبار لحاكمٍ مستبدٍّ نصّب نفسه امبراطورا على فرنسا، وما زالت صورته تتأرجح بين عبقرية "الصقر" ووحشية "الغول"، كاره النساء ومعيد العبودية إلى سابق عهدها. اليوم يبدو أن شخصية بونابارت هي الأقرب إلى ماكرون بالفعل، فلقد نشأ، مثل بونابرت، خارج باريس واقتحم المشهد السياسي من حيث لا أحد يدري، وحصل على السلطة في وقتٍ قياسي. مثل بونابرت، بدأ ماكرون مسيرته مهووسا بالعظمة، وها هو اليوم على وشك أن ينهي مساره وحيدا، منبوذا، وفاشلا.
ليس تشبيه الرئيس الفرنسي بآخر ملوك فرنسا وامبراطورها تحاملا على الرجل، بل هو وصف دقيق "للملك الرئيس"، كما يصفه جان لوك ميلونشون، زعيم حزب فرنسا الأبية، اليساري الثائر الذي يخشاه ماكرون، مثلما كان لويس السادس عشر يرتعش أمام ذكر اسم قائد الثورة الفرنسية، ماكسيميليان روبيسبيير، الذي ألحّ على إعدام الملك وعائلته. في لقاء أجراه مع جريدة Le 1 الفرنسية في عام 2015، تحسّر ماكرون على اختفاء الملك من المشهد السياسي الفرنسي، وأسِف للفراغ الذي تركه غياب الملك، وقال إن الفرنسيين يتوقّعون من الرئيس أن يملأ هذا الفراغ مثلما فعل بونابارت وشارل ديغول، ولمّح، في أكثر من موضع، إلى أنه من طينة الرؤساء القادرين على ملء فراغ الملك من خلال ممارسة السلطة بشكل عمودي لا يحتمل التردّد.
زادت السياسة الماكرونية في ثراء الأغنياء وفقر الفقراء وعمّقت كراهية العرب والمسلمين
لم يُخفِ ماكرون طموحه بأن يصبح "الرئيس جوبيتر" على حد وصفه، مع العلم أن جوبيتر ليس مجرّد إله السماء والرعد فحسب، بل هو ملك الآلهة في الأساطير الرومانية القديمة. ماكرون جوبيتر هي الصورة التي حاول رسمها في حفل تنصيبه رئيسا في عام 2017، إذ صعد شارع الشانزليزيه في مركبة عسكرية للمرّة الأولى في تاريخ بروتوكولات تنصيب الرئيس في فرنسا، هو الذي لم يؤدِّ الخدمة العسكرية، لكنه حاول جاهدا تمرير رسالة مفادها أنه سيحكم بقبضة الملوك وبدعم العسكر.
يساعد استحضار طبيعة شخصية ماكرون وعلاقته بالسلطة على إدراك خطورة الفترة التي يُقبل عليها المجتمع الفرنسي، فقُبيل الدورة الثانية للانتخابات ببضعة أيام، أعلن في اجتماع مجلس الوزراء أنه لن يحكم مع حزب فرنسا الأبية في حال فوزه. على الأغلب، سيفي ماكرون بوعده، حتى وإن كان الثمن إدخال البلاد في حالة انسداد سياسي وأزمة اقتصادية واحتقان اجتماعي برفضه رئيس حكومةٍ يُفترض ترشيحه قريبا من بين إحدى شخصيات حزب فرنسا الأبية الذي يَعد ناخبيه بتطبيق برنامج يهدّد بتفكيك مكتسبات السياسة الماكرونية التي زادت في ثراء الأغنياء وفقر الفقراء وعمّقت كراهية العرب والمسلمين. في غضون الأسابيع والشهور المقبلة، سيرى الفرنسيون الوجه الحقيقي للملك ماكرون الذي لا يؤمن حقّا بالديمقراطية والجمهورية، وتنطبق عليه مقولة تُنسب إلى الملك الفرنسي لويس الخامس عشر: "أنا ومن بعدي الطوفان".