الناصرية العراقية الثائرة في ثلاث حقائق
أطلق ثوار الناصرية في العراق آخر صيحة لهم في الهزيع الأخير من ليلة "السكاكين الطويلة" التي ارتكبتها عصابة "القبعات الزرق" نهاية الأسبوع المنصرم، خاطبوا رجال الأمم المتحدة الذين كانوا ما يزالون يغطّون في نومهم أن "أنقذونا .. الكثير من الموت والدمار في انتظارنا إذا لم تتدخلوا". لم يردّ أحد على صيحات الثوار، واكتفت البيانات الحكومية بتسجيل حصيلة تلك الليلة الدموية: سبعة شهداء على الأقل، وأكثر من ثمانين جريحا. ولم تجرؤ تلك البيانات الصادمة أن تحدّد القاتل المعلوم المجهول، لكنها عبّرت عن أسفها لما حدث، وشكّلت لجنة للتحقيق، مضيفة رقما جديدا إلى عدد اللجان المعنية بوقائع مماثلة، والتي تجاوزت المائة، من دون نتيجة تُذكر.
القاتل وحده تجرّأ أن يعترف، عند صياح الديك، بمسؤوليته، مشيدا بأفراد عصابته الذين هاجموا "الجوكرية الذين يعملون وفق أجندات خارجية مشبوهة"، ولم ينس أن يطلق تهديده بأن عصابته جاهزة للرد إذا ما عاد الثوار إلى الساحات. أما رجل الدولة التنفيذي الأول، مصطفى الكاظمي، الذي طالب الثوار باستقالته، فقد تقمص لباس الحملان في زعمه أن حكومته التزمت بتعهداتها، وحدّدت موعدا لانتخابات مبكرة، وأن الفوضى وتوتير الأوضاع ليسا في مصلحة أحد، ولم يجرؤ أن يقول أكثر من ذلك، لكن الثوار عادوا إلى الساحات، لأن الثورة لا تعرف أنصاف الحلول، وليس في وسعها أن تستسلم.
الثوار عادوا إلى الساحات، لأن الثورة لا تعرف أنصاف الحلول، وليس في وسعها أن تستسلم
هكذا جاءت صولة "القبعات الزرق" معطوفةً على وقائع من دون رصدها لن تكتمل الصورة، هي أولا معطوفة على ما كان أعلنه مقتدى الصدر أنه سوف "يتجرّع السم"، ويخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، إذا ما تأكد أن الأغلبية ستكون معه، وسيرشّح رئيسا للوزراء من تياره، حيث سيكون العراق "بيد الصالحين". وقد أدرك أن ثمن حصوله على الأغلبية التي يريدها هو القضاء على الانتفاضة/ الثورة التي لم تعد مقتصرة على "ثوار التحرير"، إنما أصبحت لها قاعدة شعبية واسعة، أخذت الكثير من حصة "التيار الصدري"، وربما أصبحت قادرةً على تغييبه عن المشهد السياسي، أو تحجيم حركته على الأقل.
و"صولة القبعات الزرق" معطوفة أيضا على وصية مرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، التي أبلغها قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، إلى الكاظمي في زيارته اللافتة أخيرا إلى بغداد، بقمع الانتفاضة/ الثورة قبل إجراء الانتخابات، كي يضمن فوز الموالين لولاية الفقيه، وإذا ما وجد الكاظمي حرجا في ذلك، أو تردّد في التنفيذ، فإن هناك من سينفذ الوصية. وقد كرّر الصدر، في بيانه التحذيري، التهديد نفسه، واعتبر أعوانه في حالة جاهزية، وهذا ما كان.
وهي كذلك معطوفة على مجريات الصراع المحتدم بين المليشيات التي يدين بعضها بالولاء لولاية الفقيه، وينضوي بعضها الآخر تحت عباءة السيستاني، وطرف ثالث يحمل الرايتين، ويقف التيار الصدري بين هؤلاء وأولئك فيما تُمسك المخابرات الإيرانية بكل خيوط اللعبة وتشابكاتها المعقدة.
تتكرر خسارات الصدر وتكبر، ولا يعود يملك ما يجعل حلمه في الحصول على الأغلبية في البرلمان القادم قريبا منه
وإذ حاول الصدر استغلال كل هذه الوقائع لصالحه، انبرى له جمع من "مقلّدي الصدر الأول" معلنين تمرّدهم عليه، حيث لم يعد في نظرهم مؤهلا لتمثيل تراث آل الصدر. وقد انصرف عن اشتراطات التقوى "طالبا للدنيا وساعيا للمغانم والصفقات .. وآخرها اقتحام ساحة الانتفاضة في الناصرية وقتل عدد من الشباب بدم بارد"، صفعة التمرّد هذه ألحقت بالصدر وبتياره خسارة لا يمكن تعويضها بسهولة. وجاءت الصفعة الأخرى من حلفائه الشيوعيين الذين دانوا "صولة القبّعات الزرق"، ووصفوها بأنها "مرفوضة كليا ومدانة ومستنكرة، بغض النظر عن مرتكبيها وألوانهم ومسمّياتهم. ولا حق لأية قوة سياسية أو مسلحة منح نفسها صلاحية فضّ التظاهرات والاعتصامات واستخدام العنف في ذلك"، وعابوا عليه موقفه المتناقض في الدعوة إلى تعزيز هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية من جانب، والقيام بما يعدّ تعدّيا وتجاوزا صارخا على هذه الهيبة من جانب آخر.
وهكذا تتكرّر خسارات الصدر وتكبر، ولا يعود يملك ما يجعل حلمه في الحصول على الأغلبية في البرلمان القادم قريبا منه. أما الناصرية، المدينة الجنوبية الوادعة التي سعى إلى إذلالها وتحجيم ثورتها، فقد أفرزت حقائق ثلاثا لا سبيل أمامه لنكرانها: أولاها أنها تحوّلت إلى بؤرة تمد العراق بالأمل في إمكانية التغيير واستعادة الوطن، وثانيتها أنها ظلت وستبقى أيقونة لثورة مستمرّة لا تعرف التوقف، وثالثتها أن كل المكائد والمؤامرات التي يحوكها خصومها ستصبح مع الزمن زبدا يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.