النكبة من أدوات الحرب الإسرائيلية
سبق لكاتب هذه السطور أن لفت إلى مُستجِدٍّ في مواقف اليمين الإسرائيلي الحالي حيال نكبة 1948، يشي بالانتقال من إنكارها إلى الإقرار بها وبفظائعها، بغية التلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها، كما انعكس ذلك في تصريحات عددٍ من المسؤولين الحكوميين والبرلمانيين، ولا سيّما في الفترة التي تلت الهبّة الشعبية الفلسطينية في مايو/ أيار 2021. وقد بزّ الجميع في حينه وزير الخارجية الحالي، يسرائيل كاتس، من حزب الليكود، عندما هدَّد الطلبة الجامعيين الفلسطينيين بنكبةٍ أخرى، إذا ما استمروا في التلويح بالعلم الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية، بل حثَّهم على تذكُّر عام 1948، وأن يتحدّثوا مع أجدادهم وجدَّاتهم. وقال كاتس أمام هيئة الكنيست الإسرائيلي: "إذا لم تهدأوا، فسنعلّمكم درسًا لن تنسوه أبدًا" (!) وصار هذا المسلك إلى تعاظمٍ بالتوازي مع العملية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، ضدّ كتيبة جنين، في بدايات يوليو/ تمّوز 2023.
في تلك الفترة مثلًا، كتب العقيد موشيه هاغار- لاو، وهو حاخام مدرسة عسكرية تمهيدية لشبّان الصهيونية الدينية، مقالًا في صحيفة يسرائيل هيوم، شدّد فيه على أنّ هناك حاجةً لتنفيذ عقوبات جماعية في الأراضي المُحتلّة منذ 1967، للوصول إلى الردع، على غرار العقوبات الجماعية التي ارتكبها ابنا يعقوب، شمعون ولاوي، في شخيم (نابلس)، وورد ذكرها في سِفْرِ "التكوين" في كتاب التناخ، والأكثر أهمّيةً من ذلك في قراءته، أنّ من يجب أن يقوم بذلك هو الجيش بعدّه "جيش الشعب". وبرأيه، في المناطق التي يوجد فيها مجتمع محلّي يدعم المقاومة فعليًا (حاضنة شعبيّة) ينبغي القيام بعمليات ردع أكثر من مُجرَّد إلحاق الضرر بأماكن العمل أو أيّ عملية عقابية صغيرة، وإيجاد مُعادلةٍ مفادها أنّ المحيط الداعم للمقاومة لا يحقّ له البقاء، وبكلمات أخرى؛ تنفيذ إبادة جماعيّة. وهو ما دفع الكاتب الإسرائيلي كوبي نيف إلى التنويه بأنّه تتعالى في الآونة الأخيرة أصواتٌ داخل الصهيونية الدينية وملحقاتها، من وزراء وحاخامات وطلّاب ومدرّسين وقياديين، تطالب إسرائيل بنكبة أخرى ضدّ الفلسطينيين، وحتّى أصعب من سابقتها. ورأى أنّ أول مَنْ بدأ هذه الفريضة كان وزير المالية (ونصف الوزير في وزارة الدفاع) بتسلئيل سموتريتش، الذي طالب في مارس/ آذار 2023 بمحو قرية حوّارة عن وجه الأرض، وأوضح أنّ هذا لا يجب أن يحدث بأيدي مستوطنين، بل بيد الدولة نفسها. وبالتزامن مع ذلك، نشرت صحيفة مكور ريشون (اليمينيّة) مقالًا ركّزت فيه على تبرير الانتقام بوصفه شعورًا طبيعيًا، ولكنّها في الوقت عينه شدّدت على أنّه يجب أن يكون محفوظًا للدولة.
بعد مقال هاغار- لاو بيومٍ واحدٍ، وفي الصحيفة نفسها التي نُشر فيها، كتب البروفيسور آشير كوهين، من جامعة بار إيلان، مقالًا فيه ما يُعزّز أقوال هذا الحاخام بشأن ارتكاب نكبة أخرى، مشيرًا إلى أنّه سيكون من الجيّد لمجتمع "العدو الفلسطينيّ" أن يتذكَّر كيف انتهت بالنسبة إليه "حرب الاستقلال"، وهي التسمية الإسرائيلية الرسمية للنكبة الفلسطينية الأولى.
ولم يقتصر الأمر على الدعوة إلى اعتبار النكبة أداةً من أدوات الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، بل تعدّى ذلك إلى المطالبة بإزاحة العقبات التي من شأنها أن تحول دون إخراج الفكرة إلى حيّز التنفيذ. وفي هذه الجزئية تحديدًا، أكّد الحاخام هاغار- لاو أن الجهاز القضائي في إسرائيل لا يساعد الجيش في عملياته، مثلما انعكس الأمر بدءًا من إحباط محاولة رئيس الحكومة السابق إسحاق رابين إبعاد 415 من ناشطي "حماس" إلى لبنان، مرورًا بمنع استعمال الفلسطينيين "دروعًا بشريةً" لمهاجمة خلايا مقاومين، وصولًا إلى سلسلة من القرارات التي أصدرتها المحكمة العليا، وتُضعف قدرة الجيش في حسم المعركة ضدّ المقاومة وردعها. ومن هنا، ليس من المبالغة تقدير أنّ من بين أهداف خطّة الانقلاب على الجهاز القضائي تمهيد الأرضية لاعتماد النكبة أداةً في الحرب الإسرائيلية، وهو ما حدث في سياق الحرب على غزّة.