04 يناير 2021
"النكسة" وصعود الوطنية الفلسطينية
"على إسرائيل ألّا تذهب إلى الحرب، لأنها إن فعلت، ستخلق وطنية فلسطينية لن يكون من الممكن إلغاؤها بعد ذلك"، شارل ديغول.
قبل ثمانية وأربعين عاماً، وقبل فترة وجيزة على الحرب التي شنتها إسرائيل على مصر وسورية والأردن؛ وجه الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، تلك النصيحة المنصصة أعلاه، إلى أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه، بحسب ما كشف الكاتب البريطاني، إيان هارت، في كتابه "الصهيونية العدو الحقيقي لليهود، 2010".
أثبتت الشهور القليلة التي أعقبت الحرب صدق توقعات ديغول، والتي لم تكن على الأرجح من بنات أفكار الجنرال، ولا تأملاته، بقدر ما كانت معطيات وتقديرات مبنية على دراسة للواقع على الأرض، كانت متاحة للرئيس الفرنسي، بقدر ما كانت متاحة لغيره في دوائر صنع القرار الدولي.
وبقدر ما كانت انطلاقة المقاومة المسلحة الفلسطينية أو العمل الفدائي، كما كان يطلق عليها حينها، رداً على هزيمة النظام الرسمي العربي في حرب 1967؛ كانت كذلك تعبيراً مباشراً وصريحاً على صعود الوطنية الفلسطينية، وتأكيداً على تمسك الشعب الفلسطيني، بأرضه وحقوقه، وتعبيراً أيضاً عن فقدانه الثقة عبر السنوات التي تلت النكبة بقدرة الأنظمة العربية، وجدّيتها في خوض معركة التحرير، ورداً، في الوقت نفسه، على الواقع الاقتصادي والاجتماعي القاسي الذي كابده الشعب الفلسطيني اللاجئ في مخيمات اللجوء، والذي هو، بحد ذاته، وجه آخر لخذلان النظام الرسمي العربي هذا الشعب. كل ما سبق كانت أسباب غير مباشرة، كامنة وفاعلة، وبناء على إدراكها والبحث فيها جاءت نبوءة ديغول.
وكما أسلفنا؛ عبرت الوطنية الفلسطينية الصاعدة عن نفسها بفعل مُمَأسس، هو العمل الفدائي عبر فصائل الثورة الفلسطينية، التي جاءت في معظمها من خلفيات قومية وإسلامية، قبل أن تحسم أمرها نحو الوطنية الفلسطينية بعد "النكسة". وانخرطت تلك الفصائل في منظمة التحرير التي كانت، حتى ذلك الوقت، جسماً سياسياً رمزياً، لا يملك شرعية التمثيل الشعبي، وسيطرت عليها، وتحولت، تحت قيادة ياسر عرفات، إلى جسم بيروقراطي ضخم، يشبه في تكوينه وطبيعة العلاقات داخله؛ حكومات الدول.
وبحسب طبائع الأمور؛ سرعان ما بدأت الوطنية الفلسطينية الناشئة تبحث لنفسها عن كيان، فحين تمتلك جهازاً بيروقراطياً معقداً، وحزباً قائداً، وزعيماً بصلاحيات شبه مطلقة، وقوات عسكرية نظامية وشبه نظامية، وعلماً، ونشيداً وطنياً؛ فأنت ستبحث، بالضرورة، عن أرض تقيم عليها كيانك الذي توفرت معظم عناصره. وهذا، بالمناسبة، مدخل صالح لدراسة التجربتين الفلسطينيّتين في الأردن ولبنان، اللتين، كغيرهما من التجارب والمحطات، لم تتعرضا لما تستحقانه من مراجعة ونقد.
كانت أولى الخطوات الجدية نحو الكيانية، في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1974، الذي تحدث، أول مرة، عن إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين. وتحدث البرنامج عن رفض القرار 242، ورفض أي مشروع كيان فلسطيني، ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة، وغيرها من النصوص الإنشائية التي دأبت القيادة الفلسطينية المتنفذة على استخدامها، للتغطية على أي خرق تقوم به في اتجاه مشروع الكيانية. ولطالما ارتبطت تلك الخروق بتقديم تنازلات في القضايا الرئيسية المتفرعة من قضية فلسطين، أو ما يعرف بالثوابت، ومنها تحرير كامل التراب الفلسطيني، وحق العودة للاجئين، ورفض الاعتراف بإسرائيل، وغالباً ما تبدأ التنازلات بتخفيف التوكيد على تلك القضايا/الحقوق، وصولاً إلى شطبها.
وخلال العقدين التاليين للبرنامج المرحلي؛ تنازلت قيادة منظمة التحرير المتنفذة، تباعاً عن كل نقاط البرنامج العشر، باستثناء النقطة المتعلقة بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
إن النهج الذي سارت عليه القيادة الرسمية الفلسطينية، بعد سنوات قليلة من هزيمة 1967، والساعي إلى الكيانية على حساب ثوابت القضية الفلسطينية؛ لا يشكل، بحد ذاته، إدانة للوطنية الفلسطينية، فهو لم يكن بالضرورة نتيجة حتمية لصعودها، ولا يجوز تحميلها وزره. فالوطنية الفلسطينية صعدت في زمن عربي هابط، وفي الوقت الذي انتصر فيه معسكر النظام الرسمي العربي المرتبط بالغرب والولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً، أو ما عُرف بمعسكر الرجعية العربية، بعد خروج مصر من معادلة الصراع، وانضوائها طرفاً هامشياً داخل المعسكر الذي كانت في الحقبة الناصرية تقود نقيضه. هذا المعسكر الذي لم يكن يوماً جاداً في التزامه بالصراع العربي الإسرائيلي، بكل ما يحمله ذلك من مضامين سياسية وعسكرية واقتصادية.
وقد ساهم معسكر النظام الرسمي العربي "المنتصر"، بالشراكة مع القيادة الفلسطينية المتنفذة، بزعامة ياسر عرفات؛ في بناء بيروقراطية فلسطينية، تليق بدولة لا بحركة تحرر وطني، وحملت كل آفات البيروقراطية العربية، من فساد وإفساد، ومحسوبية، وضعف في الكفاءة، وتضخم غير مبرر... إلخ. وسرعان ما تحولت تلك البيروقراطية إلى عبء على القضية الفلسطينية، وأضحى بقاؤها والمحافظة عليها عامل ضغط، على القيادة المتنفذة للقبول بالتنازلات، والتي بدورها تذرعت بعامل الضغط هذا لتبرير تنازلاتها أمام شعبها (قضية شطب عضوية إسرائيل من الاتحاد الدولي لكرة القدم مثلا).
واليوم؛ بعد كل هذه السنوات، من الصعب تجاهل فرضية أن إسرائيل، وداعميها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، أدركوا، منذ البداية، النزعة نحو الكيانية التي ستتولد لدى القيادة الرسمية الفلسطينية، بعد حرب 1967. وعملوا، مع حلفائهم في المنطقة، على تنمية تلك النزعة، وتهيئة الظروف الموضوعية المحيطة، للدفع باتجاه قبول تلك القيادة سلطة حكم ذاتي محدود على جزء من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967، على طريق التفاوض حول دولة على حدود 67، من دون أي ضمانات على ذلك، وكانت النتيجة ما وصلنا إليه اليوم. وها هي العملية نفسها تتكرر من جديد مع حركة حماس وسلطتها في غزة.
علّق الكاتب البريطاني إيان هارت على مقولة ديغول التي افتتحنا بها المقال؛ بأنها أفضل نصيحة قدمها شخص ما لإسرائيل على الإطلاق. هل هي فعلاً كذلك؟ لم يسع هذا النص للإجابة على هذا السؤال الإشكالي، فهو سؤال أكبر من أن يجيب عليه مقال. فصعود الوطنية الفلسطينية، والنزعة الكيانية لدى القيادة الفلسطينية؛ قضايا بحاجة إلى دراسة جادة ورصينة، وهذا النص يمكن أن يوضع تحت عنوان "مشكلة البحث" في الإطار المنهجي لهكذا دراسة، لا أكثر.
أثبتت الشهور القليلة التي أعقبت الحرب صدق توقعات ديغول، والتي لم تكن على الأرجح من بنات أفكار الجنرال، ولا تأملاته، بقدر ما كانت معطيات وتقديرات مبنية على دراسة للواقع على الأرض، كانت متاحة للرئيس الفرنسي، بقدر ما كانت متاحة لغيره في دوائر صنع القرار الدولي.
وبقدر ما كانت انطلاقة المقاومة المسلحة الفلسطينية أو العمل الفدائي، كما كان يطلق عليها حينها، رداً على هزيمة النظام الرسمي العربي في حرب 1967؛ كانت كذلك تعبيراً مباشراً وصريحاً على صعود الوطنية الفلسطينية، وتأكيداً على تمسك الشعب الفلسطيني، بأرضه وحقوقه، وتعبيراً أيضاً عن فقدانه الثقة عبر السنوات التي تلت النكبة بقدرة الأنظمة العربية، وجدّيتها في خوض معركة التحرير، ورداً، في الوقت نفسه، على الواقع الاقتصادي والاجتماعي القاسي الذي كابده الشعب الفلسطيني اللاجئ في مخيمات اللجوء، والذي هو، بحد ذاته، وجه آخر لخذلان النظام الرسمي العربي هذا الشعب. كل ما سبق كانت أسباب غير مباشرة، كامنة وفاعلة، وبناء على إدراكها والبحث فيها جاءت نبوءة ديغول.
وبحسب طبائع الأمور؛ سرعان ما بدأت الوطنية الفلسطينية الناشئة تبحث لنفسها عن كيان، فحين تمتلك جهازاً بيروقراطياً معقداً، وحزباً قائداً، وزعيماً بصلاحيات شبه مطلقة، وقوات عسكرية نظامية وشبه نظامية، وعلماً، ونشيداً وطنياً؛ فأنت ستبحث، بالضرورة، عن أرض تقيم عليها كيانك الذي توفرت معظم عناصره. وهذا، بالمناسبة، مدخل صالح لدراسة التجربتين الفلسطينيّتين في الأردن ولبنان، اللتين، كغيرهما من التجارب والمحطات، لم تتعرضا لما تستحقانه من مراجعة ونقد.
كانت أولى الخطوات الجدية نحو الكيانية، في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1974، الذي تحدث، أول مرة، عن إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين. وتحدث البرنامج عن رفض القرار 242، ورفض أي مشروع كيان فلسطيني، ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة، وغيرها من النصوص الإنشائية التي دأبت القيادة الفلسطينية المتنفذة على استخدامها، للتغطية على أي خرق تقوم به في اتجاه مشروع الكيانية. ولطالما ارتبطت تلك الخروق بتقديم تنازلات في القضايا الرئيسية المتفرعة من قضية فلسطين، أو ما يعرف بالثوابت، ومنها تحرير كامل التراب الفلسطيني، وحق العودة للاجئين، ورفض الاعتراف بإسرائيل، وغالباً ما تبدأ التنازلات بتخفيف التوكيد على تلك القضايا/الحقوق، وصولاً إلى شطبها.
وخلال العقدين التاليين للبرنامج المرحلي؛ تنازلت قيادة منظمة التحرير المتنفذة، تباعاً عن كل نقاط البرنامج العشر، باستثناء النقطة المتعلقة بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
إن النهج الذي سارت عليه القيادة الرسمية الفلسطينية، بعد سنوات قليلة من هزيمة 1967، والساعي إلى الكيانية على حساب ثوابت القضية الفلسطينية؛ لا يشكل، بحد ذاته، إدانة للوطنية الفلسطينية، فهو لم يكن بالضرورة نتيجة حتمية لصعودها، ولا يجوز تحميلها وزره. فالوطنية الفلسطينية صعدت في زمن عربي هابط، وفي الوقت الذي انتصر فيه معسكر النظام الرسمي العربي المرتبط بالغرب والولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً، أو ما عُرف بمعسكر الرجعية العربية، بعد خروج مصر من معادلة الصراع، وانضوائها طرفاً هامشياً داخل المعسكر الذي كانت في الحقبة الناصرية تقود نقيضه. هذا المعسكر الذي لم يكن يوماً جاداً في التزامه بالصراع العربي الإسرائيلي، بكل ما يحمله ذلك من مضامين سياسية وعسكرية واقتصادية.
وقد ساهم معسكر النظام الرسمي العربي "المنتصر"، بالشراكة مع القيادة الفلسطينية المتنفذة، بزعامة ياسر عرفات؛ في بناء بيروقراطية فلسطينية، تليق بدولة لا بحركة تحرر وطني، وحملت كل آفات البيروقراطية العربية، من فساد وإفساد، ومحسوبية، وضعف في الكفاءة، وتضخم غير مبرر... إلخ. وسرعان ما تحولت تلك البيروقراطية إلى عبء على القضية الفلسطينية، وأضحى بقاؤها والمحافظة عليها عامل ضغط، على القيادة المتنفذة للقبول بالتنازلات، والتي بدورها تذرعت بعامل الضغط هذا لتبرير تنازلاتها أمام شعبها (قضية شطب عضوية إسرائيل من الاتحاد الدولي لكرة القدم مثلا).
واليوم؛ بعد كل هذه السنوات، من الصعب تجاهل فرضية أن إسرائيل، وداعميها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، أدركوا، منذ البداية، النزعة نحو الكيانية التي ستتولد لدى القيادة الرسمية الفلسطينية، بعد حرب 1967. وعملوا، مع حلفائهم في المنطقة، على تنمية تلك النزعة، وتهيئة الظروف الموضوعية المحيطة، للدفع باتجاه قبول تلك القيادة سلطة حكم ذاتي محدود على جزء من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967، على طريق التفاوض حول دولة على حدود 67، من دون أي ضمانات على ذلك، وكانت النتيجة ما وصلنا إليه اليوم. وها هي العملية نفسها تتكرر من جديد مع حركة حماس وسلطتها في غزة.
علّق الكاتب البريطاني إيان هارت على مقولة ديغول التي افتتحنا بها المقال؛ بأنها أفضل نصيحة قدمها شخص ما لإسرائيل على الإطلاق. هل هي فعلاً كذلك؟ لم يسع هذا النص للإجابة على هذا السؤال الإشكالي، فهو سؤال أكبر من أن يجيب عليه مقال. فصعود الوطنية الفلسطينية، والنزعة الكيانية لدى القيادة الفلسطينية؛ قضايا بحاجة إلى دراسة جادة ورصينة، وهذا النص يمكن أن يوضع تحت عنوان "مشكلة البحث" في الإطار المنهجي لهكذا دراسة، لا أكثر.