الهامش حين يصبح المتن كله
يفتتح القاصّ والصحافي الأردني، خالد سامح، روايته الأولى "الهامش" (منشورات ضفاف، بيروت، 2020) بمقولة محمود درويش من الجدارية: "... والتاريخ يسخر من ضحاياه وأبطاله/ يلقي عليهم نظرة ويمرّ". وتنشغل الرواية بمرحلة حرجة من تاريخ الأردن والمنطقة، وينحصر زمنها ما بين العامين 1991 و2005. تبدأ بسقوط بغداد واحتلالها (2003) وتنتهي بالتفجيرات في عمّان (2005) التي راح ضحيتها عشرات الأرواح. يسرد سامح أحداثاً كبرى عصفت بالمنطقة بأسلوبٍ متماسك مشوّق، من خلال حكاية الشخصية المحورية (حازم)، الصحافي والناشط الأردني المنخرط في الشأن السياسي، المكترث حدّ الإصابة بنوبات الفزع والكآبة في قضايا الوطن، بالرغم من تعليمات طبيبه النفسي بضرورة الانتباه إلى نفسه أكثر، حين يقول له مقرّعاً: "كلّ ما يقع خارج ذاتك فهو هامشي، لا تدع ما يستجدّ من أحداث يمعن في قهرك ولا تترقب حدوث المعجزات". لكنّ حازماً مرهف الحس الحالم بالتغيير، لا يمتثل لأوامر طبيبه، بل يتمادى في التمرّد على واقعه، ويكفّ عن تناول المهدّئات ومضادات الاكتئاب، ليبيح للروائي التداعي الحرّ بلا قيود أو محاذير.
يبرع خالد في تصوير تفاصيل سقوط بغداد وأحداث العنف والدمار والتناحر والانقسام التي صاحبت ذلك، مبدّدة حلم الشعب العراقي بالخلاص والحرية والعدالة والأمان الذي توهّم حدوثه بمجرّد رحيل صدام! فيستعيد المتلقي ذكرى المرارة والقهر التي ألمّت بالمواطن العربي حينها، ويُفسح حيزاً كبيراً من الرواية لمدينة عمّان، المكان الذي يصفه اللاجئون العراقيون بنافذة الهروب. يرصد تلك المرحلة العصيبة التي شهدت البلاد فيها تدفق عدد هائل من اللاجئين الهاربين من جحيم بغداد، ما سبّب ارتفاعاً في أسعار العقارات، وأحدث أزمات اقتصادية متتالية لم تحُل دون تضامن الشعب الأردني مع العراق، إذ استمرّت التظاهرات المندّدة بالغزو، وجمعت التبرّعات لنصرة الشعب العراقي المتروك لمواجهة مصيره المظلم، ويعرّج، في الوقت ذاته، على مظاهر التحول والتغيير الاجتماعي التي طرأت على العاصمة، لناحية انتشار المقاهي والمطاعم والأندية الليلية التي افتتحها بعض فلول صدّام حسين، فتحولت عمّان من مدينة وادعة بريئة إلى مدينة كبيرة يطيل سكّانها الجدد السهر ويتقنون حياة الليل.
ومن خلال شخصية "لهيب" تخوض الرواية أكثر في عمق المأساة العراقية. يقع حازم في حبّ هذه المترجمة العراقية البعثية التي كانت تعمل في وزارة الخارجية في عهد صدّام، ومن ثم صارت متعاونة رغماً عنها مع قوات الاحتلال، ما صنّفها خائنة مزدوجة، وعرّضها للاختطاف والاغتصاب والتعذيب على أيدي متطرّفين قبل هروبها إلى عمّان وتورّطها في أعمال مشبوهة مع ثري عراقي جعل منها مومساً راقية لأبناء الطبقة البورجوازية، فتحرز ثروة تبدأ فيها حياتها سيدة مجتمع وصاحبة غاليري يؤمه علية القوم. ويعود بنا حازم إلى الزرقاء، مكانه الأول، مدينة المعسكرات التي اكتسبت شهرة عالمية بسبب الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي. يصف المدينة ومكونها الديموغرافي المختلط والتحوّلات التي طرأت عليها وحوّلتها من مدينةٍ منفتحةٍ تضمّ دور السينما والمتنزهات ونادي أسرة القلم ومراكز الشباب والشابات، وينتمي إليها عدد كبير من مثقفي الأردن، إلى أن أصبحت مدينة متزمتة تُقتَل فيها النساء بدافع الشرف، وتصدّر إرهابيين إلى العراق وأفغانستان، وتتسربل نساؤها بالعباءات السوداء. تنتهي الرواية بتفجيرات عمّان وتداعياتها التي أحدثت صدمة كبرى، وهزّت يقين الأردنيين بأمان عاصمتهم التي "تمتصّ الصدمات وترقب بحذر حريق كل الجهات".
تضمّ الرواية المهمة الجديرة بالقراءة تفاصيل مثيرة وشخصياتٍ إشكالية وقضايا مثيرة للجدل في سياق سرد مدهش متدفق، فتترك في نفس المتلقي حالةً من الأسى، وتكوّن لديه فهماً أكثر لملابسات تلك المرحلة وفوضاها غير الخلاقه. وختاماً، لا بدّ من الإشارة إلى الجهد التوثيقي الكبير الذي تنطوي عليه، ما يجعل من رواية "الهامش" المتن كله!