الهند .. مؤشّر قضائي أولي ضد حملة الكراهية
قليلا ما تتطرّق الأوساط الرسمية في الهند إلى حملة الكراهية المتصاعدة ضد المواطنين المسلمين، وبدرجة أقل المسيحيين وأتباع الديانات الأخرى، غير أنها تغض الطرف عن حملات تعبئة يتولاها أنصار حزب بهاراتا جاناتا الحاكم، على هيئة تجمّعات ومسيرات، علاوة على التنكيل بأفراد مسلمين عزّل وتلطيخ دور العبادة، وتنظيم حملات اعتقال لناشطين مسلمين يدافعون عن حقوق جميع المواطنين، ويدينون التمييز وبثّ الكراهية (تجري محاكمتهم وفق قانون مكافحة الإرهاب!). وقد تواصلت هذه الحملات في أجواء من تغاضي الدول الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي عن هذه الحملات التي تصاعدت منذ خريف العام 2020 ضد الهنود المسلمين، وتعدادهم زهاء مائتي مليون نسمة وبما يعادل 14% من أبناء الهند. وبالنظر إلى الكثافة السكانية العالية في التجمعات الحضرية واستشراء الفقر (ثلثا السكان فقراء) جنبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي، والتقسيمات الاجتماعية التي تضع عددا هائلا من أبناء طائفة الداليت الهندوسية (250 مليون نسمة) في أسفل السلم الاجتماعي، وحيث تبيح الأعراف السائدة والتأويلات الدينية التنكيل بهم واستباحة فتياتهم وتهميشهم على سائر المستويات، إضافة إلى التقسيمات الإدارية التي تمنح صلاحيات واسعة لحكام الولايات ( 28 ولاية). في هذه الظروف، يسهل العثور على بيئة اجتماعية واقتصادية مواتية لحملات التعبئة ضد شرائح واسعة من المواطنين، في إطار من إعادة الهندسة الاجتماعية التي يتولاها الحزب الحاكم منذ العام 2014، بغية إعادة رسم هوية الهند بجعلها محض هوية هندوسية، وذلك بديلا للدستور العلماني، ولإرث طويل من التعايش والوئام بين سائر المكونات أرساه بناة الهند الأوائل، وفي مقدمهم المهاتما غاندي، الزعيم الروحي للهند وبطل حركة الاستقلال عن بريطانيا في ثلاثينات القرن الماضي وأربعيناته، ومن تبعه لاحقا، مثل جواهر لال نهرو وأنديرا غاندي وسائر قيادات حزب المؤتمر ورموزه.
لم تتوقف هذه الحملة، ولكن تم تلزيمها (إحالتها) إلى الأجسام الحزبية والمنظمات الاجتماعية والتجمعات الدينية، وإلى وسائل الإعلام وغيرها من الوسائط، بحيث توحي أنها مجرد حراك أو تدافع اجتماعي، وفي إطار ديمقراطي وبرعاية القوانين النافذة، فيما تتولى السلطات في نيودلهي المراقبة، بعد أن قذفت الكرة نحو الملايين من أنصار حزب جاناتا بهاناما، ومن يشايعهم من المتطرّفين المتدينين، كي ينغمس هؤلاء في مشاحنات واحتكاكات بلا نهاية، وتورّث أحقادا متناسلة، وفي لعبة إحراز انتصارات على الشركاء في المجتمع والأمة، بدلا من الانتصار على الفقر والبطالة والجريمة، وهو ما يحدث، بل بات من أبرز الأحداث الطاغية على البلد الذي لطالما وصف بأحد أعرق الديمقراطيات الآسيوية.
أبدى العالم الإسلامي قدرا كبيرا من انعدام الحساسية تجاه ما يتعرض له مسلمو الهند
في هذا السياق، تسترعي الانتباه محاولة إعادة كتابة تاريخ البلاد وتصنيف الرموز التاريخية، فإذ يقترن اسم الهند بغاندي، فإن هذا الزعيم االتاريخي الذي اغتاله في يناير/ كانون الثاني 1948 شخصٌ يدعى ناثورم جوتسي، بات يتعرّض للإقصاء والشيطنة، مع العمل على تمجيد قاتله. وفي سيرة الرجل، عدا على مكافحته المنهجية الاحتلال البريطاني، أنه كان مصلحا اجتماعيا كبيرا، وحاول، بين ما حاوله، إنصاف طبقة المنبوذين وتمثيلهم في مجلس النواب بطريقة منصفة. كما سعى في العام 1947 إلى عدم انفصال باكستان، مستخدما صداقته مع محمد علي جناح الداعي إلى استقلال باكستان، فلما وقع الانفصال، رأى فيه غاندي مناسبة للدعوة إلى تعزيز الوئام الوطني والاجتماعي داخل الهند، وذلك على خلفية احتكاكات واسعة وقعت في مدينة كلكتا، وجرى فيها استهداف المواطنين المسلمين. والآن وبعد نحو سبعة عقود، يراد لتلك الاحتكاكات الخطيرة أن تتجدّد على نطاق أوسع، وبرعاية رسمية وحزبية، مع تأثيم بطل الاستقلال والمساواة، لأنه سعى إلى مكافحة التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو عرقي. والآن، تنتصب في البلاد عشرة تماثيل على الأقل لقاتل غاندي.
خلال تجمّع كبير في أوائل الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، وفي مدينة هاريدوار الهندوسية المقدّسة (شمال)، ظهرت سيدة تخاطب حشدا كبيرا وتشجّع على قتل مسلمين، كما دعت إلى "الصلاة من أجل ناثورام غودسي"، الهندوسي المتطرّف الذي اغتال غاندي بطل استقلال الهند. وفي الاجتماع ذاته، دعا زعماء دينيون في ولاية أوتاراخند إلى تسليح أنفسهم لارتكاب "إبادة جماعية" ضد المسلمين، وفقًا لمذكرة اتهام قدّمتها الشرطة التي قالت، في المذكرة، إنها تستجوب المشتبه بهم، ولكن لم يتم القبض على أحد. وتقع الولاية التي شهدت الحشد تحت حكم حزب بهاراتا جاناتا الذي أعيد انتخابه في 2019، ما أدّى إلى تصاعد في الهجمات اللفظية والعنف الجسدي ضد المسلمين والأقليات الأخرى.
وفي خريف العام الماضي، تم إحراق ما لا يقل عن 12 مسجدا في خمس ولايات، فيما تحظر السلطات الصلاة خارج المساجد. .. وبموازاة هذه الحملات، ينشط متطرّفون لإصدار تشريعات تواكب هذا الارتداد على مكون اجتماعي كبير، فقد أصدرت مجالس نحو عشر ولايات تشريعاتٍ تجرّم التحوّل إلى المسيحية أو الإسلام أو إلى ديانة السيخ، فيما يتم اعتبار التحوّل من الأديان الأخرى إلى الهندوسية في منزلة "العودة إلى البيت".
إذ يقترن اسم الهند بغاندي، فإن هذا الزعيم التاريخي بات يتعرّض للإقصاء والشيطنة، مع العمل على تمجيد قاتله
وبينما أبدى العالم الإسلامي قدرا كبيرا من انعدام الحساسية تجاه هذه التطورات، فإن منظمات حقوقية وإنسانية في الغرب، إضافة إلى منابر الرأي في وسائل الاتصال، وقفت ضد هذه الحملات، وثمّة من تساءل: لماذا لم تناهض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذه الحملة ضد ملايين المسلمين الهنود، أسوة بالموقف الذي تم اتخاذه ضد الحملات على مسلمي الإيغور في الصين ومسلمي الروهينغا في ميانمار؟ وقد جرى تفسير هذا بشبكة المصالح السياسية والاقتصادية مع الهند، علما أن اللامبالاة والسلبية وسمتا العالم الإسلامي حيال هذه المسألة بصورة أكبرمن أي طرفٍ دولي آخر.
في الأيام القليلة الماضية، وفي ضوء حملة إعلامية واسعة مصدرها الغرب، ذكرت المحكمة العليا في الهند أنها ستنظر في عريضةٍ قانونيةٍ تطالب بمحاكمة زعماء دينيين ألقوا خطابات تحريضية ضد المسلمين في اجتماع مغلق الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول). ووفقاً لوكالة أسوشييتد برس، قال ثلاثة من قضاة المحكمة العليا إنهم أصدروا إشعارًا إلى حكومة ولاية أوتاراخند لإبلاغهم بأنهم سيحقّقون في القضية في بحر الأسبوع المقبل. وهي واحدة من الإشارات النادرة إلى أن الحملة الإعلامية وضغوط المنظمات الدولية قد بدأت تعطي نتائج أولى. والمهم أن تنعقد المحاكمة، وأن تمضي في مراحلها القانونية إلى النهاية بغير تعطيل سياسي، وذلك في اختبار جدّي، هو الأول من نوعه في هذا المضمار للحكومة الهندية التي تواظب على الصمت إزاء الانتهاكات الجسيمة.