الوادي الفارغ يمتلئ
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تكثر في ربوع عُمان المناطق التي يبدأ اسمها بوادٍ، في العاصمة مسقط مثلا يمكن عدّ كثيرٍ منها، مثل وادي الخوض ووادي الحيل ووادي عدي ووادي القرم ووادي الموالح ووادي اللوامي (جمع عُماني لشجرة الليمون) والوادي الكبير ووادي البحايص وغيرها. بيد أن هذه الأودية لا يوجد فيها ماء في معظم أيام السنة، بخلاف ما يوحي به اسمها. ولكن الأمر يبدو أكثر واقعية حين تهطل الأمطار، حيث تمتلئ هذه المسطّحات الجرداء بنبض الحياة الذي يفيض على الجوانب، كما حدث أخيرا حين هطلت الأمطار، حيث ترى الجبال في حالة ثورة مائية حين تجري خيوط الماء من القمم في ركض جنوني باتجاه اليابسة، لتملأ تلك الأحواض التي ظلت وهمية فارغة طوال العام. وبعد انتهاء دورة المطر الذي يجيء عادة عنيفاً، حيث تتعطّل المدارس، ويسمح لموظفي بعض المناطق البعيدة بالتعطّل اتقاء لعدم تعرّضهم لمخاطر هذه الأودية التي يغطّي بعضها شوارع مرور السيارات. يُغامر أصحاب بعض السيارات رباعية الدفع في تحدّي جريان الوادي، ولكن منهم من يدفع ثمن تلك المغامرة حياته، بسبب فائض اتحاد شعوري المغامرة والفرح.
تروج فيديوهاتٌ مائيةٌ عديدة وقت هطول الأمطار، كما حدَث في الأيام الماضية القريبة، حيث هطلت أمطار غزيرة غطّت معظم مناطق عُمان، ضمنها العاصمة مسقط، وذلك لأن مشهد الأمطار، وخصوصاً في العاصمة، يكاد يكون نادراً ويحتاج الأمر إلى انتظار طويل حتى عودته، حيث يتحوّل سريعا إلى ذكرى، ولكنه يترك أثراً كبيراً في الأنفس، وكذلك في خزّانات الماء، وخصوصاً الجوفية منها.
تكون مسقط أقلَّ استفادة من المياه الجوفية قياسا بالقرى، حيث معظم الخزّانات فيها يمكن تسميتها الخزّانات الخاصة، مثل الآبار المسوّرة في المزارع والبيوت الخاصة، على خلاف خزّانات المياه الجوفية في القرى التي يفيض ماؤها على هيئة أفلاج عامة. كما أن منسوب المسطّحات المائية في العاصمة كثيرا ما يكون مصيره البحر، حيث يصبّ هناك ويتلاشى مع ملوحته إلى الأبد، إذا استثنينا بعض السدود في العاصمة، مثل سدّي وادي الخوض ووادي ضيقة على أطراف مسقط، والأخير نموذج جميل للسدود الواسعة العميقة، فهو مقصدٌ سياحي محلي، بمدرّجاته المائية المندفعة التي تفيض بما يشبه شلالات مائية تسقط برشاقة إلى قاع السد لتملأه.
وإذا خرجنا عن جغرافية العاصمة مسقط، فإن عدد مسمّيات هذه الأودية يزيد بصورة ملحوظة، وكأن كل قرية في عُمان لا بدّ أن يبدأ مسمّاها بكلمة وادٍ. تكون أيضا اسماً بلا مسمّى طوال العام إلى أن تهطل الأمطار، ولكن القرى تتميّز عن العاصمة بوجود ما تُسمّى محليّا بالأفلاج، وهي مسطّحات مائية أو نهيرات صغيرة ينشط بعضُها طوال العام ليؤدّي وظيفته الزراعية، وللأفلاج في عُمان سنن يحفظها الأهالي من أجل توزيعها بعدالةٍ على مختلف حقول القرى، حيث إنها هبة طبيعية عامة، فلا بدّ، بالتالي، من توزيعها بعدالةٍ على من يمتلك أرضا زراعية تحتاج ماءً، وبذلك ينصب لكل فلج في عُمان وكيل (يسمّى وكيل الفلج) ينحصر دورُه في رعاية توزيع منسوب ماء الفلج طوال العام على المزارع، ويأخذ عادة أجرَه من أصحاب هذه المزارع مقابل حرصه على توزيع الماء بينهم ضمن حسبةٍ معقّدةٍ يطول شرحها.
ووقت الأمطار تمتلئ الأودية الجافّة وتفيض، بسبب اتحاد الشّعاب الهابطة من الجبال، مثل وادي سمائل المعروف بحجمه العريض وقوة اندفاعه. هذه الجبال الجرداء المتّجهمة تكون في غاية السخاء أوقات هطول الأمطار، ثم لا تلبث أن تعود إلى حالتها الأولى الصامتة ما إن تتوقّف الأمطار. تتوزّع هذه المياه عبر الأودية إما إلى السدود التي أنشأتها الدولة أو إلى البحر بعد أن يتّحد بأودية العاصمة، وهناك ما تتشربه الأرض لتملأ خزّاناتها الجوفية، نرى بعد ذلك أن الأفلاج المعتمدة على ما رسب من ماء إلى خزّاناتها الخفية، ولفترة أشهر من العام في كامل نشاطها، ويبدأ الماء العكر الذي سحبه الوادي من السطح في الصفاء. وكأن جوف الأرض فلتر طبيعي للتصفية من الشوائب، حين نرى الماء الجوفي يخرُج عبر مرايا الأفلاج عذبا صافيا، وهو يتدفق بلا انقطاع، مع خفوت منسوبه مع الوقت، بسبب نضوب مصادره الأصلية، في انتظار دورة جديدة للأمطار تعيد له الحياة والنشاط.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية