اليمن إلى المربع الأول
مع التصعيد الذي تشهده الأراضي اليمنية اليوم، بعد الهجوم الحوثي على أبوظبي، يبدو أن الحرب في البلاد عادت إلى نقطة الصفر، وذهبت كل محاولات إنهائها أدراج الرياح. فبعدما كان التركيز الدولي في الأيام الأولى لحكم جو بايدن منصبّاً على محاولة إنهاء الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من سبع سنوات، وبعد الوصول إلى صيغ كان من الممكن أن تؤدّي إلى إسكات أصوات المدافع وهدير الطائرات، ها نحن اليوم نرى تكراراً لمشاهد بداية الحرب مع مستوى غير مسبوق من العنف أدّى خلال الأيام الأولى من العام الحالي إلى سقوط عشرات القتلى.
اللافت هو توقيت التصعيد، الحوثي تحديداً، وتزامنه مع مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، ولا سيما أن الأجواء السابقة كانت تشير إلى انفراجات في الملفات التي لإيران دور فيها، وكان من المفترض أن ينسحب ذلك على الملف اليمني الذي تلعب فيه طهران دوراً محورياً عبر دعمها المطلق جماعة أنصار الله. الانفراجات في الملفات الأخرى، عدا اليمني، أخذت أشكالاً مختلفة. ففي لبنان عاد ما يسمى "الثنائي الشيعي"، ممثلاً بحزب الله وحركة أمل، إلى الحكومة بعد مقاطعة استمرّت شهوراً، تعطل فيها عمل هذه الحكومة. كذلك الأمر بالنسبة إلى العلاقة بين إيران والسعودية، والتي شهدت في الأسابيع الأخيرة تقدّماً، واتفاقاً على إعادة افتتاح سفارتي البلدين في طهران والرياض. حتى بالنسبة إلى العلاقة الإماراتية الإيرانية، كانت لافتة الزيارات التي قام بها مسؤولون إماراتيون إلى طهران، والتي أوحت بمرحلة جديدة من تحسين العلاقات قد تنعكس على الملفات العالقة بين البلدين، ومنها الملف اليمني.
غير أن كل هذه الإيحاءات لم تكن كافيةً لتجنيب اليمن جولة التصعيد الحالية، والتي يبدو أنها ستكون طويلة، وتغرق البلاد بمزيد من البؤس وتدهور الأوضاع الإنسانية، وهو ما حذّرت منه الأمم المتحدة والولايات المتحدة في الساعات الماضية، وسط العجز عن الحدّ من جولة العنف القائمة. وهي جولة قد لا تكون بعيدة عما يحدث في فيينا، بعد تعثر التوصل إلى اتفاق جديد، ولو مؤقتاً، بعدما رفض المسؤولون الإيرانيون العرض المقدّم من الدول الغربية لإبرام اتفاق مبدئي، على أن تستكمل المباحثات لاحقاً للوصول إلى صيغةٍ نهائيةٍ تعيد تفعيل الاتفاق النووي. على هذا الأساس، يمكن إيجاد رابط بين ما يحدث الآن في اليمن وما يجري في فيينا، إذ لا يمكن تفسير تصعيدٍ كهذا، والهجوم المباغت الذي نفذته جماعة الحوثيين على أبوظبي إلا في إطار تفعيل إيران أوراقها الضاغطة على طاولة التفاوض. وفي ظل استمرار حالة التعثر في التوصل إلى تفاهماتٍ ترضي الطرفين في فيينا، فإن الضغط قد يخرج عن الإطار اليمني إلى ساحات أخرى لإيران أياد فيها.
يمكن مراقبة الوضعين العراقي واللبناني في الفترة المقبلة لقياس مدى الضغط الذي يمكن أن تمارسه طهران لتحسين الظروف التفاوضية، خصوصاً أن الأرضية جاهزةٌ في هذين البلدين لإعادة التأزيم عبر بوابات داخلية مختلفة، فمعضلة الحكومة العراقية لم تحلّ بعد، وتهديد القواعد الأميركية لم ينته. الأمر نفسه في لبنان، حيث يمكن للوضع الحكومي أن يعود مجدّداً إلى حالة التجميد، وبالتالي تعليق كل القرارات الاقتصادية التي يمكن أن تساهم في إخراج البلد من أزمته.
لكن في هذه الأثناء فإن الأنظار ستبقى شاخصة نحو اليمن، والذي يبدو أنه سيواصل النزف، باعتباره الساحة الأسهل للتصعيد، ما دامت الحرب الدائرة فيه لم تضع أوزارها بعد، وبالتالي فإن إطلاق جولة معارك جديدة سيكون أمراً مبرراً بالنسبة إلى صناع قرار التصعيد. ووفق هذا المنظار، فإن لا مانع بالنسبة إلى أصحاب القرار هؤلاء من إعادة إنتاج الحرب وبداياتها، وهو ما يبدو حاصلاً اليوم.