انتخابات الجزائر .. المستقلون والتأسيس للطائفية السياسية
أدّى فوز الأحزاب التقليدية بمعظم مقاعد البرلمان في الانتخابات التشريعية الجزائرية، في 12 يونيو/ حزيران الحالي، وفشل المستقلين في تحقيق الفوز الذي يمكن أن توظفه الجهة الداعمة لهم، في اتجاه الإيحاء بوجود رغبة في التغيير، مثلما يطالب بها الحراك، إلى بروز أسئلة كثيرة، من قبيل: هل يمكن اعتبار فشل المستقلين بمثابة إخفاق لرهانات الرئيس، عبد المجيد تبون، في إيجاد نخبة سياسية بديلة لمنظومة الحكم السابقة؟ وهل يؤكد فوز الأحزاب التقليدية مسألة صعوبة الانتقال إلى الجزائر الجديدة؟ وما هي انعكاسات اعتماد العملية الانتخابية على العوامل العرقية والعشائرية القبلية، أو ما يمكن تسميته الطائفية السياسية الجديدة؟
بالنظر إلى حالة اللارضا والرفض للمنظومة الحزبية التقليدية، المتهمة بدعم النظام ومساندته في الفترة السابقة، عمل الرئيس تبّون، منذ توليه الحكم في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، على دعم المجتمع المدني، وتقديم التسهيلات له لإنشاء الجمعيات، بغية تأهيله ليكون بيئةً حاضنةً لنخبة سياسية جديدة، ظلت ترافع من أجل الإصلاح والتغيير، في إطار جزائر جديدة، كما يعبر عنها حراك 22 فبراير/شباط، بل وتشكّل به قوة بديلة لمنظومة الحكم. وأعتقد أن الرئيس تبّون استوحى رؤيته من تجربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتعلقة بحركته "الجمهورية إلى الامام" في 6 إبريل/ نيسان 2016، والتي عمل من خلالها على تجديد النخبة السياسية في فرنسا، فتشكّلت حركته من شباب ومثقفين ورجال فكر، وهي، بحسب ماكرون في أحد تصريحاته "نتاج تفكيرٍ جماعيٍّ لوضع المواطنين في قلب الحياة السياسية".
في هذا السياق، يمكن القول إنّ الدخول الكثيف للمستقلين في الانتخابات يأتي ضمن مسعى السلطة القاضي بالدفع بأكبر عدد من الناخبين إلى المشاركة في العملية الانتخابية، وعبرها احتواء أصوات قطاع كبير من الشعب ظلّ يقاطع كلّ العمليات الانتخابية. وفي مستوى آخر، إمكانية تشكيل أغلبية منهم (المستقلين) في البرلمان تساهم في صنع القرار.
ثمة فشل في استمالة منطقة القبائل للانخراط في العملية الانتخابية، لا سيما بعد فشل صفقةٍ دأبت السلطة على إبرامها مع حزب جهة القوى الاشتراكية
تبعاً لمختلف التسهيلات المقدّمة للمرشحين المستقلين من السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، تم قبول 837 قائمة للمرشحين الأحرار، مقابل 646 قائمة حزبية. مع تقديم إعانة 300 ألف دينار (2240 دولاراً) لكلّ مرشح شاب (ما دون الأربعين)، بهدف مساعدتهم في القيام بالدعاية الانتخابية. ما يلاحظ، ولعلّه لأول مرة، لم تتدخل السلطة مباشرة في ضبط قوائم أحزاب النظام، بل جرى إقصاء لكثيرين من عناصرها وقياداتها، على غرار ما حصل للأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، أبو الفضل بعجي. على الرغم من ذلك كله، تمكّنت أحزاب المنظومة التقليدية من أن تؤكد تجذّرها في المنظومة المجتمعية، من خلال النتائج التي حققتها، وأنّها رقم مهم في معادلة النظام والحكم. على نحو ذلك، ما هي تبعات ترشيح المستقلين وفوز أحزاب المنظومة التقليدية على النظام السياسي؟
أفادت نتائج الانتخابات باكتساح أحزاب منظومة الحكم التقليدية، في انتظار الإعلان عن النتائج النهائية عند الفصل في المقاعد المتنازع عليها، وذلك بفوز ثلاثة أحزاب تنتمي للتيار الوطني: جبهة التحرير الوطني بـ105 مقاعد، والتجمع الوطني الديموقراطي بـ57 مقعداً، وجبهة المستقبل بـ48 مقعداً. وفاز الحزبان الإسلاميان (الإخوان المسلمين) و(حركة المجتمع والسلم) بـ64 مقعداً. كما فازت حركة البناء بـ40 مقعداً، مقابل 78 مقعداً للمستقلين، من أصل 407 مقاعد، ويجري الفصل في مقاعد أخرى. من خلال هذه النتائج، تأكد فوز المنظومة الحزبية التي ساندت الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، منذ توليه الحكم في 1999.
فوز أحزاب المنظومة التقليدية رد ضمني على أيّ جهد يريد تجاوزها، أو أي تفكير يعمل على إحالة حزب جبهة التحرير على المتحف
وإلى هذا، ثمة فشل في استمالة منطقة القبائل للانخراط في العملية الانتخابية، لا سيما بعد فشل صفقةٍ دأبت السلطة على إبرامها مع حزب جهة القوى الاشتراكية، أقوى الأحزاب وأكبرها وجودا في المنطقة، بالإضافة إلى منع عناصر نشطة من الحراك هناك، المواطنين الراغبين في الاقتراع (تكسير وحرق وإغلاق لمراكز الاقتراع). تبعاً لذلك، كانت نسبة المشاركة ضعيفة جداً، إذ بلغ عدد المقترعين في ولاية تيزي وزو 4976 موزعين على 11 مقعداً، أي بنسبة مشاركة بلغت 0.68%، وفي ولاية بجاية وصلت نسبة المشاركة النهائية إلى 0.79%.
وأدى الدخول المكثف للمرشحين المستقلين في الانتخابات إلى تكريس الانقسام الحاد داخل النسيج الاجتماعي في الجزائر، القائم أصلاً بفعل ممارسات لاديموقراطية سابقة (ظل المعيار العشائري حاسماً في اختيار المرشحين منذ بداية أول انتخابات تعددية). ففي غياب برامج حزبية شاملة، وافتقاد معظم المرشحين للتكوين والتثقيف السياسي، واعتماد قانون القائمة المفتوحة، وخطاب المرشحين غير المعلن من أجل الظفر بالأصوات، كان الخطاب السائد خطاب مظلومية بامتياز؛ حرب الجميع ضد الجميع (العائلة والحي والقرية والعشيرة والقبيلة والولاية والجهة والعرق). لقد أسس لطائفية جديدة. ووجد المرشحون الفرصة في تعبئة أبناء عشيرتهم، بل حصل انقسام حتى داخل العائلة الواحدة، بسبب وجود أكثر من مرشح من أجل التصويت عليه. هكذا دخل الجميع في سباق محموم، وظفت فيه كلّ وسائل الدعاية السياسية على الطريقة الهوبزية (نسبة إلى توماس هوبز) "حرب الجميع ضد الجميع".
مقاربة تبون في الاعتماد على آلية الانتخابات البرلمانية وترشيح المستقلين من أجل تجديد النخبة السياسية، وبما يسمح باستيعاب مطالب فئة الشباب في الحراك، قد فشلت
لقد كان لمتغير العرق والقبيلة والعشيرة والجهة والمنطقة دور في الترشيح والفوز على مستوى الأحزاب وقوائم المستقلين، بمعنى أنّ من لا يملك وعاء انتخابياً ذا صلة مباشرة بالمتغيرات السابقة لا يمكنه أن يحظى بالقبول في الترشيح، وإذا تجاوز هذه المرحلة، فإنّ عقبة الفوز بالمنصب تتوقف تماماً على عدد أفراد عشيرته أو قبيلته أو جهته. ولقد مسّت هذه الظاهرة معظم مناطق الجزائر، وهناك أمثلة كثيرة عليها، منها ولاية باتنة في الشرق الجزائري، عدد الناخبين فيها 674 ألفاً، منهم ما بين 70 ألفاً و80 ألفاً في مقاطعة بريكة، لكنّ الانتخابات أفرزت فوز سبعة ممثلين منها من أصل 12 لولاية باتنة. والمنطق يقول إنّه، وبناءً على الشروط والظروف التي جرت فيها الانتخابات، لا يمكن أن تحصل بريكة على أكثر من 10% (من مقعد إلى اثنين). كذلك، خسر في هذه الانتخابات مرشّحون كان في وسعهم تقديم إضافة جيدة، ليس فقط للولاية، بل للدولة الجزائرية، بسبب افتقارهم إلى وعاء انتخابي كبير.
وأنتهي إلى القول إنّ مقاربة الرئيس تبون في الاعتماد على آلية الانتخابات البرلمانية وترشيح المستقلين من أجل تجديد النخبة السياسية، وبما يسمح باستيعاب مطالب فئة الشباب في الحراك، قد فشلت. ذلك أنّ فوز أحزاب المنظومة التقليدية رد ضمني على أيّ جهد يريد تجاوزها، أو أي تفكير يعمل على إحالة حزب جبهة التحرير على المتحف. كما أكدت الانتخابات، وأسّست، للدور الحاسم للبنى الاجتماعية التقليدية في حسم نتائج الانتخابات (العرق، القبيلة، العشيرة، الجهة، المنطقة)، أو ما أسميه الطائفية السياسية الجزائرية الجديدة. وإذا لم يتدارك النظام السياسي هذا التردّي الخطير، سوف تشهد الجزائر، في المستقبل، أعمالاً جدّية لتفكيك الدولة وتقسيمها تحت عناوين القبيلة والعشيرة والجهة أضمن للحقوق من الدولة.