انتقاد التدخل الخارجي في عالمٍ غير نام

19 مارس 2023

رئيس الكونغو تشيسكيدي وماكرون في كينشاسا (4/3/2023/فرانس برس)

+ الخط -

"انظروا إلينا بطريقة مختلفة... احترمونا، قدّرونا مثل شركاء حقيقيين، وليس، كما دائماً، بنظرة أبوية، معتقدين معرفة كل ما هو ضروري لنا. فرنسا ـ أفريقيا لم تعد موجودة". ... ما أجمل ما ورد من كلماتٍ يمكن للقارئ أن يُقدِّر أنها صادرة عن وجعٍ أفريقيٍ مستدامٍ تجاه سياسات أبوية تقود فرنسا في نظرتها إلى القارة السوداء، دولا وشعوبا وقادة. وكأنها أيضاً كلمات صادقة صادرة عن مناضلٍ أو مفكّر أفريقي لم يعد بإمكانه أن يستمرّ في مجاملة الآخر "الأبيض" المهيمن سابقاً عبر الاستعمار، ولاحقاً عبر إعانات التنمية أو الاستثمارات المُغرية. وفيما ورد أيضاً تأكيدٌ على ضرورة تاريخية وإنسانية، يجب أن تُترجم نهاية السيطرة المباشرة أو غير المباشرة للمستعمر الفرنسي خصوصاً، أو الأوروبي عموماً، على حيوات مواطني هذه القارّة ومقدّراتهم. كما أن هذه العبارة تكشف اللثام عن ظاهرةٍ جديدةٍ وإيجابية أفريقياً أولاً وعالمياً ثانياً، وهي تتمثّل في تحقّق الوعي الوطني، والذي تُعبّر عنه النخبة بحتمية تغيير السياسات الغربية، وضرورة تعديل النظرات المتخيّلة لواقع أفريقيا، وإمكانية الخروج من الدائرة الضيقة للأحكام المسبقة التي خطّها بعض من نصّبوا أنفسهم عارفين بمسارات القارّة وشعوبها وبمآلات أحلامها وتطلعاتها.

هذا الموقف الوطني، التقدّمي والمتقدّم، الحازم تجاه السياسات الغربية وطرائق معالجتها لملفات العلاقات مع أفريقيا، سينال حتماً إعجاباً شديد اللهجة من مناصري القوى التحرّرية ومن مُنظّري الجولة المُنتظرة من تطوير أدبيات العلاقات الدولية. وفي الدول العربية، ستنتهز بعض قوى اليسار البافلوفي أو اليمين المُتشنّج، دينياً أو قومياً، هذه الكلمات لتتبنّاها ولتعتبر أنها تترجم، ببلاغة واقتدار، وجعها القديم المستمر، ورغبتها في مستقبل مختلفٍ جذرياً. وستتلقّف القيادات السياسية المستبدّة هذه الفرصة بحماس لإعادة إنتاجها وتكرار ما ورد في هذه العبارات مع تعديلاتٍ طفيفة تجعل منها تعبيراتٍ تلائم الوضع المحلي لكل دولة على حدة. ومن خلالها، ستسعى إلى مواجهة أية مطالبة، غربية عموماً وأوروبية خصوصاً، في العمل على التخفيف من السياسات التسلطية والتعديل الإيجابي الفعلي (أو حتى التجميلي) من مستوى استبداد القيادة السياسية غير المنتخبة بالشعب المغلوب على أمره في أثناء حقب استعمارية متتالية، توّجت بدولة وطنية فاشلة ومستبدّة تكاد أعمالها أو عدمها تدفع الناس إلى مقارناتٍ تاريخية لربما لا تصحّ نظرياً ووطنياً، ولكنها في الواقع تتكرّر بتناسبٍ طرديٍّ مع حجم القمع والاستبداد والإفقار عبر الفساد والإفساد بين المُستَعمِر والمُستَعبِد.

من الأجدى، ولكن من غير المنتظر، أن يهتم القائمون بأمور بلدانهم انتخاباً نسبياً أو سيطرة عسكرية، بأدنى احتياجات مواطنيهم قبل أن يتصدّوا لما يعتبرونها مؤامرة خارجية

ويكاد المتحمّس من كل الأطراف السابق ذكرها، يقف مزهوّاً للحظات بانتصار وجهة نظره التي افترضت وفرضت دائماً رفض الملاحظات التي تأتي من خارج الحدود، وذلك بعد أن تمكّن غالباً من قطع رأس ولسان كل ما يمكن أن يصدُر عن مواطنيه من داخل الحدود من ملاحظاتٍ ومن انتقاداتٍ مشروعة. الموقف المعادي لدخول المستعمر إلى الدار من النافذة بعد أن غادرها عبر الباب يستحق التقدير في المطلق، ومن دون أي نوعٍ من التردّد. وفي المقابل، لا يُحبّذ أن يغفل المتغافل، لغايةٍ في نفسه، المصدر، فكما أن الكلام الحقّ يُراد به باطل في بعض الأحيان، فالعداء الشكلي للمستعمر وحيله لا تُسمن من جوع مستدام إلى الحرية الحقيقية التي بحثت عنها وسعت إليها الشعوب عندما حاربت هذا المستعمر الأجنبي، وأجبرته على مغادرة أراضيها. والتي سرعان ما افتقدتها، إن هي كسبتها أصلاً، بوصول المستبدّين إلى حكمها ولفرض إراداتهم عليها.

ألم يوبّخ الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، نظراءه الأوروبيين في كل مناسبة انتقدوا خلالها على استحياء الوضع السلبي لحقوق الانسان في البلاد التي يحكمها؟ ألم يوجّه لهم الملاحظات حول السيادة الوطنية والاختلاف المشروع بين الثقافات وضورة احترام قوانين البلدان الأخرى، وإن هي انتُهكت وإن هي نصّت على الإعدام إثر محاكماتٍ لم تتوفر فيها أدنى الشروط الموضوعية للعدالة، وإن هي اعتبرت التمويل الأجنبي الشفاف للمجتمع المدني جرماً فظيعاً؟ ألم يعتبر أن أي تعرّض للنفوذ الاقتصادي للقوات المسلحة، كما لجوئها إلى قمع المظاهرات السلمية، خط أحمر يقتصّ تجاوزه من السيادة ومن الاستقلال؟

العداء الشكلي للمستعمر وحيله لا تُسمن من جوع مستدام إلى الحرية الحقيقية

ألم يهاجم المخزن المغربي كل منتقديه من نواب أو سياسيين أوروبيين لسياساته المحلية والإقليمية المتعلقة بحريات مواطنيه، كما الحق في تقرير المصير لسواهم؟ ألم يسع إلى حملات دعائية سياسوية بامتياز تذهب بسمعة منتقديه من المواطنين أدراج الإهانة والتشويه؟ ألم يُهاجم الرئيس التونسي كل منتقديه من منظمات مجتمع مدني دولي أو صحافة أو شخصيات فكرية، معتبراً أن انتقادهم للانتهاكات المستمرّة لحقوق مواطنيه ووأده المبرمج لثورة تونس ما هو إلا ترجمة لمؤامرة دولية تُحاك ضد شخصه أولاً وبلاده في المآل الثاني؟

من الأجدى، ولكن من غير المنتظر، أن يهتم القائمون بأمور بلدانهم انتخاباً نسبياً أو سيطرة عسكرية، بأدنى احتياجات مواطنيهم قبل أن يتصدّوا لما يعتبرونها مؤامرة خارجية. ومن المؤكّد أن هذه المؤامرة ستجد صعوبات جمّة أن تخترق جسداً وطنياً صحيحاً مبنيا على حقوق المواطنة وعلى احترام الحريات وعلى محاربة الفساد.

عبارة الافتتاح "الجميلة" كانت موجّهة إلى الرئيس الفرنسي في أثناء استقباله أخيرا من رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، والواصل حديثاً إلى الحكم بشهادة علمية يشوب صدقيتها الشك وباتفاق مبطّن مع الديكتاتورية السابقة، ولكن عبر انتخاباتٍ تخللتها، بإجماع كل المراقبين، انتهاكاتٌ وتزويرٌ موصوف.

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا