انتهازية قيس سعيّد
تذهب تونس بعيدا في الوقوف إلى صفّ الجزائر في الخلافات مع المغرب. وما قام به الرئيس التونسي، قيس سعيّد، من استقبال رسمي لزعيم جبهة بوليساريو، إبراهيم غالي، يعد إضافة نوعية إلى مجموعة مواقف سابقه، تقترب شيئا فشيئا من الخطوط الحمراء بين الرباط والجزائر، بل تشكّل دعوة زعيم بوليساريو لحضور ندوة اقتصادية أفريقية يابانية، سابقة تاريخية، لا تنفع فيها التبريرات التي ساقها بيان الخارجية التونسية، وتبقى تصرّفا أحاديا مقصودا. ولذا سيكون له ما يليه، وليس أقلّ منه تدشين طريق يأخذ تونس بعيدا عن خط الفلسفة الديبلوماسية التقليدية القائمة على التوفيق والحياد في قضية الصحراء، وزجّها في سياسة المحاور، الأمر الذي، إن دلّ على شيء، فإنما يفضح أكثر جانبا من شخصية الرئيس التونسي وأسلوبه في إدارة البلد، فهو يهرب من مواجهة الاستحقاقات الداخلية الصعبة إلى انتهاج خطّ في الحكم يعتاش منه على الأزمات الخارجية، وهذا طريقٌ قصيرٌ في كل الأحوال، ولا يؤدّي إلى خاتمة سعيدة. بل يعبر عن سوء تقدير وانتهازية ومتاجرة بالموقف في خلافٍ بين بلدين شقيقين، كان عليه ألا يوفر جهدا كي يؤلّف ولا يفرّق بينهما.
مسألة الصحراء بقيت مثار شد وجذب بين المغرب والجزائر منذ النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، عندما تم تأسيس جبهة بوليساريو بدعم جزائري. وصارت مع الزمن مقياسا لدرجة حرارة العلاقات بين الرباط والجزائر، فهي أحيانا تغيب عن الواجهة كليا حينما تصفو الأجواء، وفي أحيان أخرى، تعود إلى السطح لتصبح ميدان نزاع مفتوح، يُخفي في باطنه ملفاتٍ أخرى. وفي هذه الغضون، نجح المغرب في إحداث تغيير كبير على الأرض عن طريق ربط منطقة الصحراء، التي باتت مع الزمن لا تختلف عن أي مقاطعةٍ مغربية أخرى. ورغم المناوشات السياسية مع الجزائر وبعض الأوساط الدولية، يعتبر المغرب أن هذه القضية باتت منتهية، وهناك إجماع داخلي عليها، ويتعامل معها على أنها قضية وطنية سامية وأحد شؤون السيادة، لا تقبل التفريط أو المساومة. وواجه من أجل ذلك ضغوطا دولية وعمليات ابتزاز، إلا أنه لم يتراجع عن موقفه. وفي مقابل ذلك، لا حضور لهذه القضية على الساحة الدولية، بخلاف تحريك الجزائر لها في بعض المناسبات. وفي أغلب الأحيان، لا يكون السبب المباشر هو الحرص على قضية الصحراء، بقدر ما هو انعكاس لخلافاتٍ ذات طابع ثنائي جزائري مغربي، أو حاجات داخلية جزائرية تحرّكها حسابات بين مراكز القوى في الجزائر.
بات النزاع بشأن الصحراء بين المغرب والجزائر مزمنا، إلا أن ذلك لا يعني أنه لن يجد حلا له في اللحظة المناسبة، ولن يكون ذلك إلا بما يرضي البلدين. وبالنظر إلى طبيعة هذا النزاع، لا يمكن للتدخلات الخارجية، مهما حاولت التأثير، أن تحسم المسألة ضد طرف. وتجدر هنا الإشارة إلى مسألة مهمة، أن طرفي النزاع لم يفتحا الأبواب للرياح التي تهبّ من الخارج، وكانا على الدوام يعيان خطورة إفساح المجال للعب على هذا النزاع، لأن التدخلات الخارجية مكشوفة، ولا تتم عن حسن نيات بقدر ما تحاول الاصطياد في مياه الخلاف، وتدفع نحو التصعيد الذي قد يذهب إلى حافّة الانفجار، ويدخل البلدين في نزاع مسلح يهدّد استقرارهما. ولذا، لن يجد الرهان على تصعيد كبير في المحيط المغاربي فرصة مواتية. وتبقى هناك مساحة كبيرة أمام التفاهم وتهدئة الخواطر بين الرباط والجزائر، وساعتها لن يقدّم موقف سعيّد أو يؤخّر، ولن يحسب على تونس البلد المسالم، بل سيسجله التاريخ عليه مبادرة انتهازية لإسناد وضعه الداخلي المتهالك بسبب تراكم الفشل.